في شهر يونيو/حزيران من كل عام، يتوافد السياح إلى العاصمة الشمالية الروسية، سانت بطرسبرغ، لمتابعة ذروة ظاهرة الليالي البيضاء التي تمتد فلكيّاً مدة 23 يوماً، من 10 يونيو/حزيران وحتى 2 يوليو/تموز، لكن يمكن فعليّاً متابعة الليالي القصيرة والمضيئة، بدءاً من نهاية مايو/أيار من كل عام.
وقد أصبحت الليالي البيضاء بمثابة بطاقة تعريفية ورمز غير رسمي لمدينة سانت بطرسبرغ، بينما تشهد ضفاف نهر نيفا الذي تطل عليه المدينة، ازدحاماً ملحوظاً في ساعات متأخرة من المساء يوميّاً، وسط توافد الجماهير للاستمتاع بمناظر النهر والعمارة الكلاسيكية الفريدة للمباني التاريخية. ومن بين تلك المباني العريقة المطلة على نيفا، قلعة بيتروبافلوفسك الشهيرة وقصر الإرميتاج الذي يُعدّ واحداً من أهم المتاحف للفنون الجميلة على مستوى العالم، وشاهداً على مختلف المراحل من تاريخ روسيا، ويضم آثاراً وتحفاً تعود إلى عصور مختلفة ولوحات بريشة أبرز الرسامين العالميين.

ومع ذلك، لا تصل درجة الإضاءة خلال الليالي البيضاء إلى درجة وضح النهار، بل هي أقرب إلى ساعات غروب لا تتحول إلى ظلام، حتى أن رؤية النجوم ليلاً تكاد تكون مستحيلة. ورغم أن هذه الظاهرة شائعة بالنسبة للمناطق الشمالية التي لا يحلّ فيها ليل فلكي في بعض الأوقات من العام، إلا أنها تحولت إلى رمز لسانت بطرسبرغ تحديداً، مجتمعة مع التراث التاريخي والثقافي الفريد للمدينة. وتبلغ ظاهرة الليالي البيضاء في بطرسبورغ ذروتها يومَي "الانقلاب الصيفي" في 21 و22 يونيو/حزيران، حين يستمر النهار الفلكي لمدة تقارب 19 ساعة.

توضح الباحثة في مجال الفنون، يليزافيتا يوخنيوفا، أن ظاهرة الليالي البيضاء في المناطق الواقعة بالخطوط العرضية الشمالية تعود إلى غروب الشمس تحت زاوية منخفضة، مشيرة إلى أن "الظاهرة تحولت إلى جزء لا يتجزأ من الحياة الثقافية للمدينة". وتقول يوخنيوفا في حديث لـ"العربي الجديد": "ترجع التسمية الرومانسية، الليالي البيضاء، إلى إطالة أمد النهار في هذه الفترة، من دون حلول الظلام ليلاً.

وتعود ظاهرة الليالي المضيئة إلى غروب الشمس تحت زاوية لا تتعدى سبع درجات وعدم (غوصها) عميقاً خلف الخط الأفقي، ولذلك يصبح الليل أشبه بأوقات المغرب، وهذه ظاهرة شائعة بالنسبة إلى المناطق الواقعة بالخطوط العرضية الشمالية، بما فيها سانت بطرسبرغ". وحول الأهمية السياحية والثقافية لليالي البيضاء، تضيف: "تقام خلال فترة الليالي البيضاء فعاليات ثقافية كثيرة، فيما تمتلئ الشوارع بالحشود من السياح ممّن حضروا لمشاهدة هذه الظاهرة الفريدة من نوعها".

وتحولت الليالي البيضاء إلى مصدر إلهام لأبرز الفنانين والأدباء، بمن فيهم أمير الشعراء الروس، ألكسندر بوشكين (1799 - 1837)، الذي اختار الليالي البيضاء خلفية لأحداث واحدة من أشهر قصائده "الفارس النحاسي"، المؤرخة في عام 1833. ويمكن لمحبّي السهرات الليلية متابعة المشاهد الرومانسية الكاتمة للأنفاس لرفع الجسور لإفساح المجال أمام حركة السفن، سواء من ضفاف نهر نيفا أو على متن زورق تنزه للاستمتاع بهذه الروعة الهندسية والفنية للملاحة النهرية.

وخلال فترة الليالي البيضاء، تحتضن سانت بطرسبرغ مجموعة من الفعاليات الثقافية الكبرى، بما فيها مهرجان الفنون "نجوم الليالي البيضاء" ومنتدى بطرسبورغ الاقتصادي الدولي وحفل التخرج من المدارس "الأشرعة القرمزية"، وحتى سباق ركض ليلي (ماراثون) وغيرها من الفعاليات الثقافية والرياضية. حتى أنه باتت تُطلق على بعض الفعاليات تسمية "الليالي البيضاء". وتقرر تمديد ساعات التشغيل لـ 30 نافورة مياه رئيسية في المدينة، لتمتد حتى الساعة الحادية عشرة مساء، وبعضها حتى الثانية ليلاً، خلال الفترة من 19 مايو/أيار وحتى 20 يوليو/تموز المقبل.

ومع إقامة منتدى بطرسبرغ الاقتصادي بالتزامن مع موسم الليالي البيضاء في يونيو/حزيران من كل عام، تعززت صورة هذه الظاهرة الطبيعية كرمز للعاصمة الشمالية الروسية، وسط انفتاحها في السنوات الأخيرة على السياح والضيوف الوافدين من البلدان العربية وغيرها من مناطق العالم، ما يزيد معدلات إشغال الفنادق والقطاع الخدمي في هذه الفترة.

وتُعدّ سانت بطرسبرغ البالغ عدد سكانها نحو 5.4 ملايين نسمة، والتي كان يُطلق عليها في الحقبة السوفييتية اسم لينينغراد، ثاني أكبر مدينة روسية بعد موسكو، وكانت عاصمة للإمبراطورية الروسية منذ تأسيسها على يد الإمبراطور بطرس الأكبر في بداية القرن الـ18 وحتى نقلها إلى موسكو في عام 1918 في أعقاب سقوط حكم قياصرة آل رومانوف ووصول البلاشفة بقيادة فلاديمير لينين إلى سدة الحكم.