في عالم يُحاصر الأطفال بين أنياب الاحتلال وأقدام الأنظمة العربية، انطلقت قافلتان: واحدة بحرية من أوروبا وأعقبتها أخرى برية من تونس؛ حملتا نفس الحلم: كسر الحصار عن غزة، لكنّهما اصطدمتا بنفس القسوة، قسوة تثبت أن الخيانة العربية والغطرسة الإسرائيلية وجهان لعملة واحدة. هنا قصة أولئك الذين رفضوا أن يكونوا حراساً لهذا السجن الكبير.
الليلة التي غرق فيها الضمير العالمي
تياغو البرازيلي ذو العشرين ربيعاً لم يكن يعلم أن مشاركته في رحلة سفينة "مادلين" ستنتهي به في زنزانة إسرائيلية تحت الأرض؛ "كنا 12 ناشطاً فقط على متن السفينة"، يقول بصوت يرتجف، "عندما حاصرتنا الزوارق الحربية الإسرائيلية في المياه الدولية، وكأننا أسطول عسكريّ لا متطوعين يحملون أدوية الأطفال".
بين الأمل والقمع
انطلقت السفينة من ميناء كاتانيا في جزيرة صقلية الإيطالية في الأول من يونيو/ حزيران 2025، تحمل على متنها ناشطين من جنسيات متعددة، بينهم الناشطة البيئية غريتا تونبرغ والنائبة الأوروبية ريما حسن. كانت الشحنة رمزية بحجمها وعظيمة بأبعادها، تشمل مئات الكيلوغرامات من المواد الأساسية كالطحين والأرز وحليب الأطفال، بالإضافة إلى معدات طبية وأطراف صناعية وأجهزة تحلية مياه.
هدف الرحلة كان واضحاً: كسر الحصار البحري عن القطاع ونقل رسالة تضامن صامتة لكنها مدوية، غير أن هذه المبادرة الإنسانية واجهت القسوة نفسها التي تحاصر غزة، ففي التاسع من يونيو/ حزيران، وبعد ثمانية أيام من الإبحار، اعترضت القوات البحرية الإسرائيلية السفينة في مياه دولية. اعتُقل الناشطون، وتحولت رحلة الأمل إلى فصل جديد من الاعتقال والاضطهاد، إذ واجه الناشطون ظروفاً قاسية من الحجز والتفتيش المشدَّد، في محاولة واضحة لكسر إرادتهم ووقف صوت التضامن الدولي.
حيث يُسرق الحليب باسم السيادة
بينما كان الناشط البرازيلي تياغو على متن السفينة يخترق البحر في محاولة مقدامة لكسر الحصار عن غزة، جرى اعتقاله مع بقية زملائه الشجعان بوحشية من قوات الاحتلال الإسرائيلي، وسُجنوا في ظروف مهينة، دون أن يُراعى أنّهم ناشطون إنسانيون؛ جاؤوا بصفتهم المدنية لا مقاتلين.
لقد لبس القامعون ثوب الشعب ليخونوا نبضه، وأوهموا العالم أن الشارع المصري قد انقلب على المبدأ، بينما الحقيقة أن اليد التي صفعت المتضامنين ليست يد الشعب بل يد السلطة
معاناة هؤلاء الشبان في الرحلة وفي السجون الإسرائيلية لم تكن حدثاً معزولاً، بل امتداداً لمعاناة غيرهم من الأحرار الذين لا ينتمون إلى هذه الأرض جغرافياً، لكنهم ينتمون لها أخلاقياً وإنسانياً. من تياغو إلى ريما حسن، النائبة الفرنسية الفلسطينية التي لم تشفع لها حصانتها الأوروبية، مروراً بالناشطين بين تركيّ وألمانيّ وإسبانيّ وهولنديّ... وغيرهم، الذين اعتقلوا أو طُردوا أو شُوهت سمعتهم لأنهم فقط تجرؤوا على رفع علم فلسطين في عواصمهم.
وإن كانت يد الاحتلال قد امتدت في عرض البحر لتقمع من جاؤوا متضامنين، فإن اليد الأخرى، المخفية تارة والمكشوفة تارة أخرى، كانت تضرب على اليابسة. ففي مصر، تعرض الناشطون من "مسيرة غزة" للضرب والإهانة والتنكيل على أيدي قوات أمن بلباس مدني، في محاولة ممنهجة لإظهار أن الاعتراض يأتي من "المواطنين العاديين"، وليس من الدولة.
لقد لبس القامعون ثوب الشعب ليخونوا نبضه، وأوهموا العالم أن الشارع المصري، ذا الزخم العارم لفلسطين، قد انقلب على المبدأ. بينما الحقيقة أن اليد التي صفعت هؤلاء المتضامنين ليست يد الشعب، بل يد السلطة، وهي اليد ذاتها التي تصافح القتلة هناك، وتمنع المساعدات هنا، وتحاصر الفلسطيني في جسده ومعيشته وتُمعن في عزل كل من يحاول الوصول إليه.
بهذا المشهد، تتكامل المأساة مع الهزل، وتغدو الجغرافيا السياسية للمقاومة محكومة بمنظومتين؛ شعوب تتقد بالشجاعة رغم البعد، وأنظمة تشتغل لحساب الاحتلال وإن رفعت شعارات ضده. وهنا، كما يؤكد الحال راهناً، فإن التضامن مع القضية الفلسطينية لا يزال يواجه مقاومة ضارية من أنظمة ترى في بقاء الاحتلال حماية لاستقرارها أو امتداداً لاستعمارها، أكثر مما ترى فيه جريمة تستحق المواجهة.
وفي ليبيا، حيث تسيطر قوات خليفة حفتر، كانت العراقيل بذريعة البيروقراطية والتعنّت الأمني في أقصى درجاتها، إذ منعت قوافل التضامن من المرور، وواجه ناشطون تحقيقات مطولة وإجراءات تعسفية، ما يعكس تنسيقاً أمنياً واضحاً وفاضحاً مع الاحتلال. هذه التجارب المشتركة، من الاعتقال في سجون الاحتلال إلى التضييق في الحدود ومطارات الدول العربية والحدود البرية، تؤكد حجم العقبات التي تواجه أي محاولة حقيقية لكسر الحصار وإيصال الدعم لغزة، كما تؤكد أن التضامن مع القضية الفلسطينية لا يزال يلقى مقاومة شديدة من أنظمة تحابي الاحتلال أكثر مما تُساند شعوبها في قضاياها المصيرية.
الرسائل التي كتبها الجلادون بتواطئهم
الرسالة التي كتبها الجلادون كانت واضحة، وإن اختلفت أيادي التوقيع عليها: حفتر قطع الطريق في الصحراء، وعبد الفتاح السيسي أطلق شرطته على المتضامنين مع غزة في شوارع مصر ومطاراتها، يضربون، يرحّلون، ويقمعون كل من حاول أن يمر من بواباتهم بجوازه وكرامته، أما إسرائيل، فكانت تشاهد من بعيد، مطمئنة إلى أن الطرق إلى غزة ما زالت مغلقة.
"قافلة الصمود" رغم عودتها اليوم لم تُكسر، عادت إلى تونس بجراحها وتحمل شيئاً أعظم من العبور: يقظة الضمير. لم تصل الشاحنات، لكن وُلدت إرادة جديدة، وكُسر الصمت، وإن لم تنجح سفينة "مادلين" والصمود، فسيأتي بعدهما قوافل أخرى، بالآلاف، فإرادة الشعوب لا تنضب، وغزة لا يمكن أن تُحاصر إلى الأبد. إذا مُنعوا اليوم من العبور، فستُحول الأرض كلّها إلى معبر؛ القوافل والسفن لم تمت، بل صارت فكرة لا تموت.