
كُتب الكثير حول البرامج الحوارية التلفزيونية التي تستضيف الفنانين والفنانات في بلاد العرب، وكان محور هذه الكتابات التساؤل في الفائدة المرجوة منها، والفائدة هنا منسوبة إلى آراء حول التسلية والدهشة وتسقط أخبار الجمال والخير في شخصيات المتحدثين، وربما أيضاً في استثمار التشويق في خلافات الفنانين البينية و"فضائحهم" المضخمة بفعل الحسّ الإعلاني/التسويقي.
مفهوم الاستفادة مبني على انحياز تكتيكي إلى المعرفة، بالافتراض سلفاً أن أي احتكاك مع الخبراء في اختصاص ما يجب أن يحمل فائدة واضحة ومباشرة للجمهور الذي ينشد الوعي بالفن، لكنه لا يدركه بسبب تفاهة هذه الحوارات. ماذا يستفيد الجمهور من معرفة أن الفنانة الفلانية ماهرة في الطبخ وتحبه أم لا؟ أو ماذا يهم الجمهور من تبادل رسائل الغرام المحتشمة بين فنان وزوجته؟ كثرت هذه النوعية من الأسئلة الحوارية المتحرشة بالجمهور أكثر مما هي فضول صحافي أو فني، مما يبيح التساؤل لا حول سبب هذه اللقاءات الحوارية الطويلة والعابرة فقط، بل عن كمية الإلزام النفسي الناتج عنها.
محبة بعض الجمهور لفنان معين تحشد محبيه وكارهيه، على طرفي خصومة غير مبررة، فضلاً عن تفاهة المسألة المطروحة بحجة التبسيطية، بزعم "ملاقاة الجمهور في منتصف الطريق" بين العلم والجهل، أو بين الغباء والذكاء. تتشكّل بذلك شريحة فرسان البرامج الحوارية بوصفها شريحة "سوبر اجتماعية"، تستطيع التلاعب، ضغطاً أو دعماً، بالفنانين الخائفين دوماً من غياب أسمائهم عن الجمهور. وفي هذه الدائرة يفعل الإلزام النفسي فعله، بمتابعة رأي الفنانة الفلانية بمسألة الخطر النووي، بالتشابك مع اسم مصمم فساتينها، أو منفذ تسريحة شعرها ومكياجها.
ربما من المفيد تذكر عدد المنابر المفتوحة لخطابات كهذه: فبعد التلفزيون الرسمي، جاءت القنوات الأرضية الخاصة، ثم الفضائيات الحكومية والخاصة، ثم المنصات الرقمية، فـ"يوتيوب" والبودكاست، وأخيراً "فيسبوك"، و"إنستغرام"، و"تيك توك". هكذا، تكاثرت الفضاءات الإعلامية، وتزايد معها "السعار" نحو التصريحات الشخصية الأكثر تهوراً واستعراضاً، حتى لتبدو جميعها إعلاناتٍ دعائيةً مدفوعة أو مجانية، لاختبار استمرار الحضور، وضمان الالتصاق بوعي الجمهور ومزاجه.
كثيرة هي المقابلات مع الفنانين، وعلى اختلاف الوسائط، لكن نادراً ما يتحدث أحدهم في صلب اختصاصه. فلا أحد يشرح مثلاً ما هو فن التمثيل، أو ماذا تعني الدراما، أو كيف تُنتج أو تُصنّف. وكأن هناك اتفاقاً غير معلن على أن الجهل بالمهنة سر من أسرارها. وفي المقابل، يبدو الجمهور العربي في حاجة حقيقية إلى فهم هذه الحِرَف الفنية بوصفها مجالات إنسانية راقية. لأن التذوق المصنوع من المعرفة، هو التذوق الحقيقي الذي يسمح للناس بالحكم، ويمنح الفن قيمته.
لكن، عوضاً عن ذلك، ترسّخ هذه البرامج معيار "الشهرة" مقياساً وحيداً للاستحقاق الفني، فتنغلق الدائرة مجدداً: من ترويج البقاء تحت الضوء، إلى عمل فني لا يُشرح ولا يُعرّف، ولا يَعرف الجمهور عنه شيئاً، ثم يُعاد إنتاجه وتسويقه بوصفه "نجاحاً".
ربما تكون التكنولوجيا قد أضرت، لا بمن يُشاهد فقط، بل حتى بمن ينتج ويتكلم. فالكلام الذي بلا معنى يملأ الشاشات، في أحجام وألوان وخلفيات متطورة، بينما المضمون يتراجع لصالح ثرثرة فارغة، خصوصاً حين تدور حول تفاصيل شخصية لا تقدم للمشاهد أي قيمة معرفية. هل من جديد أن تشتاق فنانة لأولادها؟ هل تصبح هذه تجربة خاصة تستحق أن تُروى بوصفها ملحمةً؟ وحدها البرامج الحوارية تجعل من العادي استثنائياً، وتُلبس المواقف الإنسانية العامة رداء البطولة الفردية، لتُقنعنا بأن صاحبها جدير بالشهرة، وبالاحتفاء، وبأن يُسمع له حين يتكلم في السياسة أو البيئة أو الأمن النووي.
في مثل هذا المشهد، تبدو أدوات التكنولوجيا أرقى من مستخدميها، خصوصاً حين تُستورد هذه الصيغ الحوارية من قوالب أجنبية مخصصة لتسويق الأعمال الفنية، بينما يُفرغها صنّاعها العرب من أهدافها، فلا يبقى منها إلا المظهر، ولا من الحوار إلا الجلبة.
