
من الصعب أن يكون السوري أو العربي (إن نجوا من الأيديولوجيا) متعاطفَين أو مؤيّدَين للنظام الإيراني، فهو لا يختلف عن كلّ الأنظمة الاستبدادية التي عرفها العالم، بل يتفوّق عليها بأنه يحكم باسم الدين والشريعة، التي فرضها باسم شرعية ثورية، ظلّت مستمرّةً منذ الثورة على الشاه في 1979، تحوّلت معها إيران دولةً استخدمت العقيدة والدين لفرض نفوذ عسكري وسياسي واقتصادي على دول عربية عدّة، عبر مشروع "تصدير الثورة" لنشر ولاية الفقيه، أو على الأقلّ لمدّ نفوذها خارج حدود إيران، في دول زعمت أن لها امتداداً طبيعياً فيها بسبب تنوّعها الطائفي، ووجود أعداد كبيرة من الشيعة فيها، مستغلّة الفراغ السياسي والمجتمعي الناجم من الاحتلال (العراق)، ومن الثورة والحرب (سورية)، ومن الفشل السياسي والاحتلال الإسرائيلي (لبنان).
لم تقدّم إيران (النظام) خلال هذه المدّة كلّها نموذجاً مسانداً للشعوب، بل على العكس تماماً، كانت تبحث عن مصالحها ونفوذها وسيطرتها على حساب الشعوب، وكانت يداً ضاربةً وقاتلةً لها، وحائطاً في وجه تحرّرها ورغبتها في التغيير السياسي. وهي مواقف أكسبتها عداءً متنامياً، يلبس، في أحيانٍ كثيرة، لبوساً طائفياً محمّلاً بسردية مواجهةٍ للسردية الطائفية التي اعتمدتها إيران في بسط نفوذها على بلاد الشام والعراق. حتى في عدائه إسرائيل، لم يخض النظام الإيراني مواجهةً مباشرةً مع دولة الاحتلال. حروبه معها كلّها كانت بالوكالة، وبدماء شباب بلادنا المنقادين باسم مظلوميةٍ دينيةٍ مستمدّة من سرديات تاريخية تراكمت بفعلَي الاستعمار والاستبداد في الوقت ذاته.
هده المرة الأولى التي تحصل فيها مواجهة مباشرة بين إيران وإسرائيل في حرب مجنونة بدأها الكيان في إثر هجوم 7 أكتوبر (2023)، الذي يقال إن إيران ورّطت به "حماس" وانسحبت من مساندتها (؟)، كذلك فعلت مع حزب الله في معركة إسناد غزّة، وكانت النتيجة حرباً ما زالت مستمرّةً، ودماراً لم يسبقه دمار، وتغييراً كبيراً في شكل منطقة الشرق الأوسط، بدأ من غزّة ولبنان وسورية، ولا أحد يدرك أين سيقف ما يُعرف "الشرق الأوسط الجديد". لكن ما يرشح (حتى الآن) مزيد من الخراب عبر انجرار الجميع للخضوع للمشروع التوسّعي الإسرائيلي، المدعوم كلّيا من إدارة ترامب.
لكن مع مساوئ النظام الإيراني كلّها، من العار أن يساند عربي واحد العدوان الإسرائيلي على إيران، وأن يهلّل لتغريدة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، التي تطالب سكّان طهران بمغادرتها فوراً. هذا لم يعد مجرّد تشفٍّ، ولا هو حيادٌ تحت شعار 'اللهم اضرب الظالمين بالظالمين". هذا خنوع كامل لمنطق القوة الغاشمة التي تضرب ما يحلو لها من دون أيّ خشية من الحساب أو العقاب. هذا خنوعٌ للاستعلاء الإسرائيلي المدعوم من المجتمع الدولي الغربي، لفرض نظام عالمي جديد حدوده عابرة للقارّات، وقوته العجرفة والعنصرية والبلطجة. هذا أيضاً قصور رهيب في فهم طبيعة العدو الإسرائيلي وجوهر بنيته، كما أنه تقزيم مضاف لقضية الصراع مع العدو، والصراع مع الاستعمار عموماً، والصراع مع كلّ أنواع الفاشية، وتحويلها إلى صراع فئوي طائفي ضيّق يقضي على كامل حقوقنا الوطنية والقومية المشروعة، وينجرّ للخانة نفسها التي أراد النظام الإيراني جرّ المنطقة إليها، وهي ذات الخانة التي طالما سعى العدو الإسرائيلي لأخذ صراعنا معه نحوها، ونجح بامتياز متعاوناً مع الأنظمة العربية الحاكمة لتحقيق ذلك.
ليس الموقف الأخلاقي من هذه الحرب أبداً دعماً للنظام الإيراني، فهو إن انتصر سيعاود سيرته في فرض نفوذه بشكل أعنف، لكنه موقفٌ من الحرب نفسها، من تعرّض ملايين المدنيين لهذا الخراب الذي جرّبناه قبلهم، ونحتاج مائة عام على الأقلّ كي نشفى منه... الموقف الأخلاقي أقول ينحاز إلى كرامتنا التي يستبيحها العدو يوميّاً، موقف ممّا يخطّطه لنا بعد الانتهاء من إيران. واهم من يعتقد أن انتصار إسرائيل هو لمصلحتنا، إسرائيل تساند أميركا في إعادة ترتيب خريطة الشرق الأوسط، أمّا نحن فلسنا سوى الجنود البائسين في أحجار الشطرنج، نُحرَّك ونُرمى جانباً كي يكشّ ملك ملكاً آخر.
