
قبل نحو شهر تقريباً، زار الرئيس الأميركي دونالد ترامب الشرق الأوسط وبشر بالسلام وبـ"فجر جديد مشرق لشعوب الشرق الأوسط العظيمة"، مندداً بالتدخلات الأميركية السابقة والمشاريع الفاشلة القادمة من واشنطن لفرض رؤيتها على المنطقة، كذلك عرض مساراً جديداً لطهران، لافتاً إلى أنه سيكون سعيداً بالتوصل إلى اتفاق "يجعل العالم أكثر أماناً". لكن بعد أسابيع من تلك التصريحات، ها هي سياساته تهدد بإشعال النار في الشرق الأوسط بأكمله.
يوم الخميس الماضي، وبينما كان الرئيس الأميركي يعلن أمام شاشات التلفاز استمرار المفاوضات مع إيران، كان قد بارك في الوقت ذاته لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو خطته لضرب طهران واستهداف قاداتها، وبعد بضع ساعات من حديثه للإعلام عن المفاوضات، كانت الطائرات الإسرائيلية في قلب طهران. غرد ترامب لاحقاً متفاخراً بخديعته التي مارسها، في طريقة جديدة لإدارة صراعات وحسم مصائر بشر تدار عبر النزوات وأساليب لا علاقة لها بالعلاقات والقانون الدولي ومن على منصات التواصل الاجتماعي. ثم قدم دعوة هزيلة إلى التوصل إلى اتفاق سياسي، لتتحول لاحقاً إلى انحياز كامل لإسرائيل.
تحول الشرق الأوسط إلى ساحة قتال مرة أخرى، في ظل استمرار تبادل الضربات والقصف الصاروخي بين إسرائيل وإيران، وأصابت الهجمات الإسرائيلية عدداً من المنشآت العسكرية والنووية وأحياء مأهولة بالسكان، وردت إيران، وعندما لم تتمكن أنظمة الدفاع الجوي الإسرائيلية من إحباط عمليات القصف الإيرانية، سارع نتنياهو إلى الاستنجاد بترامب الذي هبّ لنجدته، وسط تخوفات داخلية للرأي العام من أن يورط نتنياهو الولايات المتحدة في حرب جديدة في الشرق الأوسط.
طلب ترامب هذا الأسبوع من إيران "الاستسلام التام غير المشروط"، محذراً من "نفاد صبره" قبل تدخل الولايات المتحدة لضربها. لم يترك لها مخرجاً لحفظ ماء الوجه، متحدثاً علناً عن قدرة واشنطن على اغتيال المرشد الإيراني الأعلى علي خامنئي، ومطالباً سكان مدينة كاملة بحجم طهران تضم نحو 10 ملايين نسمة بالإخلاء الفوري، وممارساً طريقته في التلاعب أو "التفاوض" كما يحب أن يطلق عليها محبوه ورجاله الذين اختارهم للمناصب في البيت الأبيض والذين لا يستطيعون إجراء مداخلة تلفزيونية دون الإشادة به وبفخرهم بالعمل لديه، في طريقة جديدة على الإدارة الأميركية عبر تاريخها.
ورفض الرئيس الأميركي تقدير إدارة الاستخبارات الأميركية التي تضم 18 وكالة استخبارية بأن إيران ليست قريبة من تصنيع سلاح نووي، والتقديرات التي كشفتها مصادر مسؤولة بأجهزة الاستخبارات لشبكة سي "أن أن" بأن إيران على بعد سنوات من إنتاج قنبلة نووية، قائلاً "إيران قريبة من إنتاج سلاح نووي"، وبدت هذه التصريحات كأنها ترديد لتصريحات نتنياهو منذ تسعينيات القرن الماضي عن قرب إيران من امتلاك سلاح نووي، ومنذ 2012 عن أنها على بعد أسابيع من إنتاجه، ورغبته المستمرة في خوض حروب في المنطقة للحفاظ على رقبته من المقصلة السياسية.
تداول الآلاف على منصات التواصل الاجتماعي، تغريدات سابقة لترامب ينتقد فيها الحروب الأميركية في الشرق الأوسط، وعلى رأسها حرب العراق التي ما زالت آثارها السلبية مستمرة حتى اليوم بالشرق الأوسط، وحرب أفغانستان الذي أصدر هو في نهاية ولايته الأولى قراراً بسحب القوات الأميركية منها وإنهاء الوجود الأميركي فيها، ورغم ذلك لا أحد حتى هذه اللحظة يعرف ما يدور في ذهن ترامب. حاول الإعلام على مدار الأيام الماضية تهيئة الرأي العام الأميركي لقبول هذه الحرب من الرجل الذي قال عن نفسه إنه سيوقف الحروب الأميركية عالمياً، والذي انتخبه كثيرون لأنه صانع سلام كما يقول عن نفسه ولأنه وعد بإنهاء الحروب في العالم، ووقف الحرب الروسية الأوكرانية ووقف الحرب في غزة، المستمرتين حتى هذه اللحظة.
ومع حلول اليوم الخميس الذي يعد عطلة رسمية في الولايات المتحدة تخليداً ليوم جونتينث (تاريخ يوم انتهاء العبودية في أميركا)، اكتملت استعدادات الولايات المتحدة، لتوجيه ضربة أميركية لإيران، لا أحد يعرف مداها أو تأثيرها، حيث وصلت 3 حاملات طائرات أميركية إلى الشرق الأوسط، وتجاوز عدد الجنود 50 ألفاً، ووصلت طائرات "إف-22" و"إف-35" وطائرات تزويد الوقود، وتوجد قاذفتا الشبح من طراز "B-2" القادرة على حمل القنابل التي يمكنها تدمير منشأة فوردو النووية الإيرانية، لكن مفاتيح إصدار هذه الضربة في يد رجل واحد يسمي نفسه رجل السلام، هو الرئيس الأميركي دونالد ترامب الرئيس التاسع والأربعون للولايات المتحدة الأميركية، فهل ستكون الضربة اليوم الخميس كما كانت الضربة الإسرائيلية ليل الخميس وفجر الجمعة، أم تكون في عطلة الأسبوع أم الأسبوع المقبل، أم يتراجع سيد البيت الأبيض ويتخذ خطوة إلى الوراء ويدخل في مفاوضات حقيقية لا تعتمد على مبدأ الإذلال والإذعان وتقبل بحلول وسط.
تجدر الإشارة إلى أن البيت الأبيض، قال مساء اليوم الخميس، إن ترامب سيتخذ قراراً خلال الأسبوعين المقبلين بشأن ما إذا كانت الولايات المتحدة ستتدخل في الصراع الإسرائيلي الإيراني. وقالت كارولاين ليفيت، المتحدثة باسم البيت الأبيض، للصحافيين نقلاً عن رسالة من ترامب: "استناداً إلى حقيقة أن هناك فرصة كبيرة لإجراء مفاوضات قد تجري أو لا تجري مع إيران في المستقبل القريب، سأتخذ قراري بشأن التدخل من عدمه خلال الأسبوعين المقبلين".
