
منذ تشكّل النظام السوري الجديد على أنقاض نظام الأسد، وتصدّر اسمه الساحة الدولية، بدت معظم العواصم العربية في حالة تأهّب دبلوماسي، راوحت مواقفها بين الترقّب والتفاعل الحذر، وبين الانفتاح المدروس والتواصل الرمزي، والدعم أيضاً. وحدها تونس ظلّت ساكنةً في حالة صمتٍ ذي دلالة. لا بيان من الرئاسة، لا اتصال تهنئة، عدا عن بيان من وزارة الخارجية، أكّد دعم إرادة الشعب السوري، بمنأى عن أيٍّ من أشكال التدخّل الخارجي، بعد أيّام قليلة من إعلان الخارجية تضامنها مع نظام الأسد ضدّ ما اعتبرتها هجماتٍ إرهابية. لكن السياسة، خصوصاً في منطقتنا، لا تسمح بترف البرود الخالي من المعنى، إذ يمثّل الصمت موقفاً؛ والتجاهل ليس دائماً حياداً، بل قد يكون نفوراً مقصوداً، ورفضاً غير مُعلَن لمشهد لا ينسجم مع التصوّر الذاتي للسلطة، ومع ما رسّخه النظام التونسي الحالي من سردية ذاتية اختزلت الدولة في فرد، وأقصت كلّ روايةٍ مغايرةٍ لمسارها. في وقتٍ استُقبل فيه النظام السوري السابق رسمياً داخل جامعة الدول العربية، وكان قيس سعيّد من بين أكثر الرؤساء ترحيباً ببشّار الأسد، مرحّباً به بوصفه "رئيس دولة صامدة"، لم يتردّد الرجل في استعمال مفردات التضامن الكامل، بل قدّم الأسد للعرب في القمّة منتصراً على "المؤامرة"، لا ممزّقاً بلاده في حربٍ داخليةٍ طاحنة. لم يكن ذلك مجرّد سلوك بروتوكولي، بل ترجمة دقيقة لانتماء رمزي، يعبّر عن قناعات شخصية للرئيس التونسي، وعن اختيارات محيطة به من دوائر تنتمي إلى تيّارات قومية "فاشية"، ومجموعات فكرية تقليدية ظلّت ترى في النظام السوري القديم نموذجاً للدولة القومية المتماسكة في وجه التفكّك، حتى إن كانت متماسكةً بالقمع والخوف... من هذا الموقع بالذات، يصعب على تونس الرسمية (كما هي اليوم) أن ترى في النظام السوري الجديد ما يستحقّ التفاعل، فهو، مهما كانت طبيعته، جاء بملامح مختلفة عن نظام الأسد، ويسعى نحو لملمة الشتات السوري وتثبيت حضور مدني ومؤسّساتي لا يتقاطع مع الهياكل الخطابية التي بُنيت عليها السلطة في تونس منذ 25 يوليو/ تموز. لذلك، ما بدا غياباً في الشكل هو حضور في المضمون لموقف متوتّر، يُعبّر عن نفور غير مُعلَن من تحوّل سياسي لا يمكن احتواؤه ضمن سردية قيس سعيّد.
أصبحت تونس في عهد قيس سعيّد غير قادرة على الإقرار العلني بتحوّل لا يمرّ عبر بوابة الزعيم الواحد، ومن هنا نفهم الغياب المبالغ فيه من المشهد السوري
وهنا المفارقة العميقة، إذ إن تونس التي كانت في مرحلة ما مرآةً رمزيةً للتحوّل الديمقراطي العربي باتت منذ الانقلاب على المؤسّسات تتفادى أن ترى تحوّلات مشابهة لدى الآخرين، بل تبدو كأنّها تخشى أن ينجح الآخر حيث فشلت، أو أن يبعث أملاً كانت هي أول من انقلب عليه، فكلّ تحوّل سياسي مدني أو تعدّدي في جوارها العربي، مهما كانت هشاشته، يُحرِج صورتها، ويُهدّد رمزية الخطاب القائم على الفرد، والمشيئة، والإرادة الغامضة التي لا تُناقش.
لهذا السبب، لم يكن الجفاء تجاه النظام السوري الجديد تفصيلاً ثانوياً، بل يكشف عمق الخيارات التي باتت تحكم السياسة التونسية الخارجية، التي لا تُبنى اليوم على منطق التفاعل الطبيعي بين الدول، بل على نوع من الاصطفاف الرمزي، الذي يُفاضل بين الأنظمة لا على أساس الشرعية، بل على أساس الخطاب الذي ينسجم مع "الرؤية الكُبرى" التي يصوغها الرئيس وحده، وكلّ نظام يخرج من هذه الدائرة، يُقصى من الاعتراف، ويُصنّف في خانة "الاختلاف غير المرغوب". هذا إلى جانب الدائرة السياسية والفكرية المحيطة بالرئيس سعيّد، غير المُعلَنة رسمياً، إلا أنها حاضرة بقوة في اللغة والقرارات والتحالفات. ترى هذه الدائرة التي تضمّ رموزاً قومية ومواقفَ تقليديةً مناهضةً للثورات في كلّ نظام جديد، وليد التحوّلات السياسية، تهديداً وجودياً لسردية "الدولة المُحاصَرة" و"المؤامرة الدائمة"، وهو ما يجعل أيّ شكل من التواصل مع النظام السوري الجديد يُعدّ، في لاوعي هذه الدائرة، تسليماً بأن الثورات لم تكن فوضى فقط، بل قد تثمر، ولو بعد حين.
هكذا أصبحت تونس في عهد قيس سعيّد غير قادرة على الإقرار العلني بتحوّل لا يمرّ عبر بوابة الزعيم الواحد، ومن هنا نفهم الغياب المبالغ فيه من المشهد السوري، لا خطأً بروتوكولياً، بل إعلاناً غير منطوق عن رفض احتمال ولادة بديل سياسي في المنطقة، لا يشبه سعيّد، ولا يعيد إنتاج صوره، ولا يتكلّم بلغة الشعارات المتعالية على الواقع.
لم يكن الجفاء تجاه النظام السوري الجديد تفصيلاً ثانوياً، بل يكشف عمق الخيارات التي باتت تحكم السياسة التونسية الخارجية
جدير بالإشارة أيضاً أن الجفاء السياسي تجاه النظام السوري الجديد ليس إلا انعكاساً لنهج دبلوماسي بات يطبع السياسة الخارجية لتونس في عهد الرئيس سعيّد، يقوم على الانكماش الرمزي والانكفاء المتعمّد، إذ تُدار العلاقات الخارجية من منطلق سردي أكثر منه واقعي، وتُفاضَل الأنظمة وفق قربها أو بعدها من صورة الرئيس عن نفسه، لا وفق مصالح الدولة أو أعراف العلاقات الدولية. فمنذ 25 يوليو/ تموز 2021، اتخذت السياسة الخارجية التونسية طابعاً انعزالياً متوتّراً، قائماً على خطاب السيادة الصارم، والرفض المتكرّر لكلّ أشكال الضغط أو الشراكة المتكافئة، حتى مع شركاء تقليديين كالولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وتحوّلت السيادة الوطنية، من مبدأ دبلوماسي إلى أداة لغوية تُستعمل دفاعاً عن قرارات داخلية مثيرة للجدل، لا لتوجيه الفعل الخارجي بمرونة وحنكة. وتحت هذا التوجّه، لم تعد تونس تبادر أو تنخرط في قضايا الإقليم بشكل بنّاء، بل أصبحت تكتفي بالمراقبة أو التفاعل الانتقائي الموجّه، بحسب الانسجام الرمزي لا المصلحة الاستراتيجية. حتى ملفّ ليبيا، الجار الحيوي، الذي شكّل طوال سنوات عنصراً محورياً في تموضع تونس الخارجي، عرف هو الآخر نوعاً من التهميش، في وقتٍ تتزايد فيه التحوّلات الحاسمة في الداخل الليبي.
في هذا السياق، تُفهم العلاقة مع سورية الجديدة حلقةً في سلسلة أوسع من الانغلاق الدبلوماسي، فلا تتحرّك تونس الرسمية إلا حين يتطابق الخارج مع صورة الداخل، ولا تعترف إلا بمن يعزّز خطابها، أو لا يُربك سرديتها على الأقلّ، الأمر الذي جعل السياسة الخارجية امتداداً لخيارات داخلية مغلقة، لا أداةً لتوسيع الحضور التونسي أو تثبيت مصالحه.
أخيراً، يمكن اعتبار الغياب من لحظة التغيير في سورية لا يخصّ دمشق وحدها، بل يكشف موقع تونس في الخريطة السياسية للمنطقة، وتراجعها تدريجياً عن أدوارها التاريخية، وتفريطها في رأس مال رمزي راكمته بعد الثورة، حين كانت نموذجاً في الانفتاح والوساطة والتفاعل. وكلّما طال هذا التراجع، ازداد خطر انزياح تونس من شريك فاعل في محيطها إلى طرف غائب من زمنه، حاضر فقط في حدود ذاته.

Related News

