
يستغرب المرء من قدرة بعض النصوص على الصمود طويلاً في تاريخ الأفكار، رغم أن مفاصلها الكُبرى المتمثّلة في أسئلتها ونتائجها، أُعدَّت ورُتّبت في إطار سياقات تاريخية مُحدَّدة، أيْ إنها أنتجت قصد التفكير في قضايا لها صلة مباشرة بزمن معيّن، نفكر ونحن نقرّر ما سبق، في كتاب "الأيديولوجيا العربية المعاصرة"، الذي أصدره عبد الله العروي باللغة الفرنسية سنة 1967، بمقدّمة أعدّها المؤلف للترجمة العربية سنة 1970.
أشار العروي في مقدّمته الجديدة إلى أنه بدأ بإعداد العدّة اللّازمة لهذا الكتاب سنة 1960، وقد أبرز فيها أهم الخلفيات التي ترتبط بنقده أكثر الخيارات الأيديولوجية والسياسية أهميةً، المرتبطة بالأوضاع العامّة، وتصوّره للهزيمة وتبعاتها. ولعلّ أكثر ما حملته هذه المقدّمة أهميةً في علاقتها بزمن الهزيمة، طابعها النقدي الحادّ والقاطع، والمتمثّل أساساً في نقده للمثقّفين العرب، الذين لا يتوقّفون عن الحديث (بتعبيره) عن "الاشتراكية العربية، والفلسفة العربية، ورسالة العرب الخالدة، كما لو كنا نبدع كلّ يوم فكرةً جديدةً أو نظاماً جديداً (...) فعمّ الغرور وصدعت الدنيا بثرثرة أنصاف المثقّفين... ثمّ جاءت الهزيمة".
أثمرت مشاريع النقد الذاتي بعد الهزيمة فكراً جديداً، حاول الانتصار لقيم مختلفة عن القيم التي صاحبت الحرب وواكبت الهزيمة
لا نتردّد في ربط المشروع الفكري للعروي بجوانب من إشكالات التأخّر التاريخي العربي، وما ترتّب عليها من معطيات وآثار، ساهمت في هزيمة 1967. فقد أتاحت لنا المقدّمة الخاصّة بالترجمة العربية، مناسبةً لتوضيح موقفه من أسماء وأحداث وخيارات فكرية متعدّدة، وعندما نعود اليوم بمناسبة مرور 58 سنة على الهزيمة إلى إعادة قراءة الكتاب ومقدّمته، في ضوء مجمل المتغيّرات المُؤطِّرة للراهنَين العربي والغربي، نتأكّد من أنها ما تزال تخاطبنا، بالرغم من المسافة الزمنية القائمة بين لحظة صدور الكتاب وأوضاعنا العامّة اليوم. لا يخاطبنا كتاب "الأيديولوجيا العربية المعاصرة" من خلال ما ورد فيه وحده فقط، بل إنه يخاطبنا أيضاً من خلال ما أنتج صاحبه في نصوصه الأخرى، التي صدرت بعده وعملت على إتمامه، كما عملت على تجاوزه، واتّجهت في مستويات أخرى من مشروعه الفكري العام إلى تحيين بعض جوانبه وخلاصاته.
يمكن أن ندرج المواقف التي بلورها العروي، وهو يفكّر في الهزيمة بعد سنوات من حصولها، سواء في كتابه "العرب والفكر التاريخي" (1973)، والصادر بعد ذلك بالفرنسية تحت عنوان "أزمة المثقّفين العرب" (1974)، في إطار ما أصبح يُعرف بثقافة النقد الذاتي، إذ برزت جهود فكرية عربية، تدعو النُّخب السياسية والمثقّفة إلى ممارسة أشكال من النقد الذاتي، لمغالبة مظاهر التأخّر التاريخي العربي، وقد تبلورت عناصر هذا النقد في نقد الشعارات السياسية المرتبطة بحرب 1967، نقد الأسلحة، نقد الدّعم الاستعماري للمشروع الصهيوني، نقد الفكر المحافظ في ثقافتنا وفي سياساتنا، وأثمرت مشاريع النقد الذاتي بعد الهزيمة، فكراً جديداً، حاول الانتصار لقيم مختلفة عن القيم التي صاحبت الحرب، وواكبت الهزيمة. لكن لماذا لم يتمكّن العرب والفلسطينيون من مأسسة النقد الذاتي في ثقافتهم وسياساتهم؟
تحضر في فقرات المقدّمة أسماء ترتبط في ذهن المؤلّف بأحداثٍ ومواقفَ، كما ترتبط بسياق تاريخي مُؤطِّر للوجود العربي. في هذا السياق، يحضر اسم المهدي بن بركة وجمال عبد الناصر، كما يحضر ماركس ولوكاتش، وتحضر الأسئلة الكُبرى للمجتمع العربي، أسئلة نهاية النصف الأول من القرن الماضي، سنوات ما بعد استقلال بلدان عربية عديدة. لنتأمّل بعض ما يقوله العروي في مقدّمة ترجمته الكتاب المذكور: "إذا كان لتجارب الأمم مغزىً، فإن أمرنا لن يصلح إلا بصلاح مفكّرينا، باختيارهم اختياراً لا رجعة فيه المستقبلَ عِوضاً عن الماضي، والواقع عن الوهم، وجعلهم التأليف أداةَ نقد وانتقاد، لا أداة إغراء وتنويم، وإذا قيل إن أوضاع الحكم وأوضاع الحرب لا تساعد على ذلك، فأقول إن أوضاعنا ستكون دائماً غير ملائمة، لأنها لو عادت ملائمةً لما احتجنا إلى ثورة على التخلف الفكري".
يواصل العروي وصف النتائج النفسية والسياسية المترتبة من قراءته كتابه، فيقول: "كلّما أعدت قراءة جزء من هذا الكتاب، يغشاني شيء من الحزن، رغم أني أفهم بعقلي وأحاول أن أفهم الغير، أن الطفرة في تاريخ الأمم دائماً سراب خدّاع، عكس ما ظنّ البلاشفة. لكن وجداني لا يكف يستشعر الأسى على الأجيال الضائعة والنشاط العقيم والزمن الفارغ. وعندما جاءت الهزيمة تألّمت أكثر وأكثر للشعب المصري، الذي سبق كلّ الشعوب العربية إلى الإصلاح والرقي والتنمية، وحاول أربع مرّات أن يقوم بثورة شاملة، وعجز عنها أيام محمد علي وأيام إسماعيل صبري، ثم بعد ثورة 1919، وبعدها ثورة 1952.. أربع مرات حاول أن يغالب القدر المتمثل في شره المستوطنين القدامى منهم والمحدثين، ومصلحة المستعمرين، ولم ينجح. هل خانته آلهته؟ ... لا بل خان نفسه لأنه لم ينتج القيادة القادرة".
تكشف أعمال العروي الأخيرة مواصلته نقد الراهن العربي ومظاهر تأخّره وعجزه، وهي تكشف قدراته العجيبة على مواصلة التفكير
تضعنا المرارة التي تستوعبها بعض جمل الفقرة السابقة أمام موقف المفكّر من الهزيمة العربية، وهو لا يكتفي بالتعبير عن هذه المرارة وعن الأسى المصاحب لها، بل يذهب بعيداً في موضوع تشخيص مبرّرات ما حصل، ويربط ذلك بغياب النُّخبة القادرة على وضع أسس التغيير المطلوب ومبادئه، أي القيام بالثورة الثقافية المطلوبة. يتحدّث عن الهزيمة وعن الأوضاع العربية مطالع السبعينيّات، ينتقد المثقّفين العرب، كما ينتقد السياسات العربية، وتتيح لنا فقرات المقدّمة إدراك جوانب من مستويات ارتباطه بالقضايا العربية، وكيفيات نظره إلى المسألة الفلسطينية.
تكشف أعمال العروي الأخيرة، وأهمها "السُّنة والإصلاح" (2008)، و"من ديوان السياسة" (2009)، مواصلته نقد الراهن العربي ومظاهر تأخّره وعجزه، وهي تكشف قدراته العجيبة على مواصلة التفكير، في إشكالية التأخّر التاريخي العربي، وفي رصد مفارقاتها القديمة والمستجدّة. يحضر العروي في هذه الأعمال ملتزماً بروح خياراته الفكرية والسياسية، يواصل عمله في الجبهة الثقافية، ويُسعفه إيمانه بالفكر التاريخي لمواصلة نقد ومحاصرة مختلف أشكال العناد التاريخي. إنه لا يتراجع، ولا يتخّلى عن خياراته الكُبرى، وقد يبدو خطابه في هذا الجانب بالذات دوغمائياً، إلا أن تأملاً هادئاً لمراميه ولمساره الفكري ونوع خياراته، يجعلنا ندرك مبرّرات استمراره في الخطّ نفسه، ومن أجل الأهداف ذاتها، بحكم أنه ما يزال حريصاً، وربّما أكثر من أيّ وقت مضى، على مواجهة أعاصير الشتاء العربي المتواصلة.
