
يبدو أن إحصاء إسرائيل خسائرها وكلفة نزيفها الاقتصادي والمالي لن يحدث في الأجل القريب، في ظل استمرار الهجمات والصواريخ الإيرانية بنسق تصاعدي وقياسي، وزيادة مستوى المخاطر الأمنية والجيوسياسية داخل دولة الاحتلال، ففي الوقت الذي كانت تستعد فيه حكومة بنيامين نتنياهو لحصر خسائر إسرائيل الفادحة الناتجة عن تكاليف حرب الإبادة الجماعية التي تخوضها ضد أهالي غزة منذ أكتوبر/ تشرين الأول 2023، وعن المواجهة العسكرية مع حزب الله اللبناني وجماعة الحوثي اليمنية وغيرها من فصائل المقاومة العربية، إذا بدولة الاحتلال تدخل في دوامة اقتصادية جديدة قد تحولها إلى دولة هشة اقتصادياً ومأزومة مالياً وطاردة للأموال والاستثمارات إن لم تتلقَّ دعماً دولياً قوياً وعاجلاً، وتسارع دول غربية وخليجية نحو تقديم الدعم المالي السخي والاستثمارات الضخمة والمساعدات النقدية والعينية.
ومنذ انطلاق الحرب مع إيران، يتعرض الاقتصاد الإسرائيلي لخسائر باهظة قد تفوق كثيراً قدرات الدولة العبرية التي تحولت شوارعها ومؤسساتها وشركاتها ومنازلها ومحالها التجارية إلى ساحة صراع وعش للخراب، وتعرض اقتصادها للشلل التام بسبب تدفق الصواريخ الإيرانية، وتوقفت أنشطة المرافق الاقتصادية والطاقة وحركة الطيران والسياحة بالكامل، وتوقف الإسرائيليين عن الذهاب لعملهم بعد إغلاق أماكن العمل والمصالح التجارية بموجب تعليمات قيادة الجبهة الداخلية، وتعمق عجز الموازنة العامة التي تعاني بالفعل من نقص حاد في الموارد وتكاليف ضخمة، وإنفاق حربي باهظ دفع الحكومة إلى خفض الرواتب والأجور والنفقات العامة ورفع الضرائب هذا العام.
وعلى مدى أسبوع واحد، تحول الاقتصاد الإسرائيلي من مجرد اقتصاد حرب يعيش على المساعدات العسكرية الغربية، ويعطي أولوية قصوى للإنفاق الحربي، ويصرف ببذخ على جنود الاحتياط بسبب حرب غزة، وهو ما أدى إلى استنزاف احتياطي الطوارئ، إلى اقتصاد اعتراض وصد الهجمات الإيرانية ودفع تعويضات للقطاعات الاقتصادية المتضررة وترميم الأنشطة المغلقة.
وخلال أيام قليلة من الحرب تحول إلى اقتصاد تنزف قطاعاته الحيوية، وفي مقدمتها قطاع النفط الذي أصيب بشلل تام حيث استهدفت صواريخ مصفاة حيفا، أكبر مصفاة في إسرائيل، وأوقفت الصواريخ الإنتاج في حقول الغاز الكبرى الواقعة شرقي البحر المتوسط، وتوقفت صادرات الطاقة سواء نفط أو غاز ومشتقات وقود.
ووفق تقديرات إسرائيلية، فإنه خلال أول يومين من المواجهات مع إيران، تراجع نمو الاقتصاد الإسرائيلي بنسبة 10% في أول يومين للحرب، وبلغت التكلفة المباشرة للاقتصاد الإسرائيلي نحو 5.5 مليارات شيكل (1.53 مليار دولار)، منها 2.25 مليار شيكل للضربة الافتتاحية و3.25 مليارات للدفاع الجوي وتعبئة الاحتياط.
كما كشفت الأرقام أن الأضرار الناتجة عن الهجوم الإيراني خلال اليومين تقدر بنحو مليار شيكل (287 مليون دولار)، مع توقع استقبال أكثر من 22 ألف مطالبة تعويض من المواطنين. وقدرت صحيفة هآرتس أن تكلفة اعتراض كل دفعة من صواريخ إيران التي تطلقها صوب إسرائيل منذ يوم الجمعة الماضي قد تصل إلى نحو مليار شيكل، في حين تشير تقديرات أخرى إلى خسائر باهظة في مجال صد الصواريخ الإيرانية فقط، تُقدَّر بـ2.1 مليار دولار خلال 42 ساعة، وأن منظومات اعتراض الصواريخ الإيرانية وهي "القبة الحديدية" و"سهم" و"مقلاع داود"، إضافة إلى منظومة "ثاد" الأميركية، باتت تمثل نزيفاً للموازنة الإسرائيلية.
إسرائيل اليوم في ظل تلقي الضربات العنيفة من إيران ليست هي إسرائيل أمس، والصورة القاتمة التي ترسمها مراكز بحوث وصحف اقتصادية عبرية عن الاقتصاد الإسرائيلي
ومن المتوقع استمرار تلك الأضرار، في ظل تقديرات للمستشار المالي السابق لرئيس أركان جيش الاحتلال الإسرائيلي، رام أميناح، الذي صرّح لصحيفة يديعوت أحرونوت العبرية، في إبريل/نيسان 2024، بأن الدفاع عن إسرائيل يوماً واحداً ضد الهجمات الإيرانية كلف بين أربعة مليارات وخمسة مليارات شيكل (1.5 مليار دولار).
استمرار الحرب مع إيران ليس في صالح إسرائيل مطلقاً، والنزيف الاقتصادي الحالي غير قابل للاستمرار، في ظل توقعات بحدوث ارتفاع صارخ في الإنفاق العسكري، وخفض التصنيف الائتماني لإسرائيل، واضطرار الحكومة لاتخاذ خطوات سريعة لتقليص العجز المالي المتفاقم عبر خفض الرواتب وتقليل النفقات العامة، خاصة في بعض البنود المدنية، مثل الخدمات الاجتماعية والبنية التحتية، وزيادة الضرائب للمرة الثانية، وهو ما يدخلها في صدامات حادة هذه المرة أيضا مع الإسرائيليين.
والأخطر أنه يحول إسرائيل من دولة جاذبة للاستثمارات الخارجية وصناعات التكنولوجيا المتطورة ومقر للشركات العالمية الكبرى إلى دولة طاردة للأموال والإسرائيليين معاً، دولة تشبه ما حولها من دول عربية ونامية تعاني الفقر والبطالة والتضخم والتعويم والتخلف الاقتصادي والعلمي، وغارقة في الديون الخارجية والداخلية. دولة تعتمد على جيب الإسرائيلي وضرائبه في تمويل عجز الموازنة. دولة يهرب منها المستثمر الأجنبي والمحلي على حد سواء. دولة معزولة دوليا ذات مستقبل غامض وبيئة طاردة للأموال. تضحي بالاقتصاد والسكان والرفاهية للمحافظة على حكومة عنصرية يقودها مجموعة من المتطرفين ومصاصي الدماء.
إسرائيل اليوم في ظل تلقي الضربات العنيفة من إيران ليست هي إسرائيل أمس، والصورة القاتمة التي ترسمها مراكز بحوث وصحف اقتصادية عبرية عن الاقتصاد الإسرائيلي ربما تكون أقل كثيرا من الواقع الصعب الذي ستظهر ملامحه عقب انتهاء تلك الحرب الشرسة التي قد تسحق الاقتصاد

Related News


