إنَّ منطقة الشرق العربي، أو الشرق الأوسط، حتى نشمل العنصر غير العربي في حديثنا، لم يستقر لها قرار منذ أمدٍ بعيد. الموضوع أبعد زمناً من يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، بل يعود إلى أكثر من سبعة عقود منصرمة، إذا لم نقل أبعد من ذلك، حيث تجتاحها كلَّ حين وآخر حادثة تهزُّ الأرض من تحت قدميها هزًّا، حتى يمكننا القول إنَّ هذه المنطقة تشبه أرض الزلازل التي لا يهدأ لها قرار. لذا كانت الحرب التي شنَّتها دولة الاحتلال على إيران في فجر يوم الجمعة الماضي مُتَّسِقة مع هذه البديهة.
لقد أشعلت هذه الحرب ليالي الشرق الأوسط الطويلة، ليالي "الشرق الفنّان"، كما سمّاه المفكّر زكي نجيب محمود، ويبدو أنَّ لقب فنّان مأخوذ من تَفنُّن هذا الشرق التعيس في استحداث أحداث دراماتيكية كلَّما سنحت الفرصة لتفعيل ذلك؛ فالحوادث لدينا تشبه حكايات ألف ليلة وليلة، ففي نهاية كلِّ حكاية تنبعث حكاية جديدة، وهكذا دواليك حتى يُدرك شهرزاد الحكي العربي الصباح، بيد أنَّ صباحنا لا يزال بعيدًا. لذا فالليل العربي طويل السُّبات والسُّرى، لكن لياليه حالكة السواد ولا قمر يضيء لنا سُدْفة العَتَمة المطبقة علينا.
ما أضاء هذه الليالي الحالية هو شعلة الصواريخ طويلة المدى والمسيّرات وطائرات الـF35 العابرة في السماوات العربية بين إيران ودولة الاحتلال، بحيث كانت ليلة السبت الماضي، على سبيل المثال، ليلة الصواريخ الطويلة، ولا تزال الليالي في تواليها المشتعل.
لكن هذه الليالي لا تشابهها أيُّ ليالٍ أخرى عرفناها، لأنها ليالٍ ستُقرِّر مستقبل المنطقة برمَّتها؛ لأنَّ اللاعبَين في خضمّ هذه الحرب هما من أكثر المؤثرين في جغرافية هذه المنطقة العربية منذ عقود خلت؛ فإيران منذ انتصار ثورتها على الشاه عام 1979 وتبدُّل نظامها إلى النظام الحالي، وهي تمدُّ يدها الطويلة إلى منطقتنا العربية وتهندس ملامحه بما يخضع لمصالحها، ولا تزال، أمّا دولة الاحتلال، فواقع الحال وما يجري على أرض فلسطين يُغني عن الكلمات.
الحوادث لدينا تشبه حكايات ألف ليلة وليلة، ففي نهاية كلِّ حكاية تنبعث حكاية جديدة، وهكذا دواليك حتى يُدرك شهرزاد الحكي العربي الصباح، بيد أنَّ صباحنا لا يزال بعيدًا
إذن، هذه الحرب ليست حرباً عادية، بل حرب وجود بين الكيانين المتصارعين، وفي ضوء نتيجة الحرب سيُعاد تشكيل ملامح الشرق الأوسط الـ... الذي لا ندري ماذا سيكون، فضلًا عن اسمه المستقبلي!
المشكلة في كلّ ما يجري أنَّ العرب فيه مجرَّد متفرجين لا أكثر، لا دور لهم إلّا عَدّ الضربات والصواريخ المحلِّقة فوق رؤوسهم الفارغة! وكأنَّ الأمر لا يعنيهم، ولا مسرح المعركة هو أراضيهم، سواء المحتلة أو غير المحتلة. تقودهم العاطفة في تشجيع طرف على آخر، من باب النكاية بالطرف الآخر، دون أي حساب لحوادث التاريخ، ولا مآلات المستقبل القريب أو البعيد. حتى إنَّه في هذه الجَلَبة الدائرة اختفى اسم غزَّة من نشرات الأخبار العربية، وحلَّ بدلًا منها جغرافية الصراع الدائر! وتمحور الدور العربي في التصريحات بالإدانات والدعوات إلى ضبط النفس، كما المعتاد في كلّ ملمَّة تنزل بالعرب، وتطوَّر الحال فتصدَّر الحديث حفنة محللين "استراتيجيين" يمخرون في فضاءات القنوات أو مواقع التواصل الاجتماعي، كلُّ وظيفتهم الحكي ثم الحكي، بوجود خريطة تفاعلية أو بغيابها، وكأنَّهم ينوبون عن شهرزاد في الليالي العربية المشهورة!
Related News

