
بعد سبع سنوات عجاف من الغياب القسري، أُلقي بصيص أمل على عائلات ثمانية مواطنين مصريين من محافظة أسوان، عادوا إلى منازلهم فجأة في 10 مايو/أيار 2025. ووثقت فرق بحث تابعة لمنظمات حقوقية العودة غير المتوقعة قبل أيام معدودة والتي سلطت الضوء على ظاهرة الاختفاء القسري المستمرة في مصر، وحجمها الحقيقي، وتأثيرها العميق على السلم والأمن القومي.
وكانت السلطات المصرية قد اعتقلت المواطنين الثمانية تعسفياً خلال شهري أكتوبر/تشرين الأول ونوفمبر/تشرين الثاني 2018، ليظلوا طوال هذه المدة رهن الاختفاء القسري من دون عرضهم على أي جهة تحقيق، قبل عودتهم إلى ذويهم وسط صمت رسمي مطبق وتكتم شديد من عائلاتهم، خوفًا على الأرجح من أي تداعيات مستقبلية. ويعمل أغلب المفرج عنهم في مهن حرة، منهم سائقون وعاملون بمحال هواتف، بحسب ما أورده مركز الشهاب لحقوق الإنسان في بيان له في 16 يونيو/حزيران الجاري. ومن بين هذه الحالات، برز اسم جعفر عبده عبد العزيز (44 عامًا)، الذي اختُطف من أمام منزله في 30 أكتوبر/تشرين الأول 2018، ليصبح أيقونة لملف الاختفاء القسري في أسوان.
وتُشكل ظاهرة الاختفاء القسري في مصر مصدر قلق بالغ للمنظمات الحقوقية المحلية والدولية، التي تتضارب إحصاءاتها نتيجة التضييق الأمني الذي يحد من قدرتها على الرصد والتوثيق الكامل. ومع ذلك، تشير هذه الأرقام إلى حجم المشكلة، إذ سبق أن وثقت المفوضية المصرية للحقوق والحريات، 4253 حالة اختفاء قسري، لا يزال 412 منها قيد الاختفاء حتى الآن. وكان عام 2015 الأكثر إيلامًا بـ 816 حالة، تلاه عام 2016 بـ 691 حالة. في المقابل، شهد عام 2019 أعلى نسبة لظهور المختفين، إذ بلغ عددهم 927 حالة.
كذلك رصد مركز الشهاب لحقوق الإنسان، في تقريره السنوي لعام 2023 وصول عدد المختفين قسريًّا من السياسيين إلى 2465 شخصًا، كما وثق مقتل 65 مختفيًا قسريًّا خارج نطاق القانون. كذلك أشارت منظمة العفو الدولية في تقريرها عن مصر لعام 2024 إلى تعرض "عشرات الأشخاص للاختفاء القسري" في عام 2023، لافتة إلى استمرار الاحتجاز التعسفي والمحاكمات الجائرة والتعذيب. وتواجه هذه المنظمات تحديات جمة في توثيق الحالات، منها التضييق الأمني والملاحقات القضائية، بالإضافة إلى الإنكار الممنهج من جانب السلطات المصرية التي تنكر وجود الظاهرة، مما يجعل الحصول على أرقام رسمية موثوقة أمرًا مستحيلًا، كما أن الخوف والصمت يجعلان الضحايا وذويهم يترددون في الإبلاغ عن الحالات.
ولا يقتصر تأثير الاختفاء القسري على معاناة الأفراد والأسر فحسب، بل يمتد ليشكل تهديدًا مباشرًا على السلم والأمن القومي في مصر على عدة مستويات، منها زعزعة الثقة في المؤسسات؛ إذ يؤدي الاختفاء القسري إلى اهتزاز ثقة المواطنين في مؤسسات الدولة، خاصة الأجهزة الأمنية والقضائية، مما يخلق بيئة من الخوف وعدم اليقين. وتخلق ظاهرة الاختفاء القسري بيئة للتطرف، طبقًا للأبحاث؛ إذ يمكن أن يدفع اليأس والإحباط الناتج عن الاختفاء القسري بعض الأفراد، أو ذويهم، إلى تبني أفكار متطرفة أو الانضمام إلى جماعات عنيفة، بحثًا عن العدالة المفقودة أو الانتقام، مما يزيد من مخاطر عدم الاستقرار.
وكذلك تثير الظاهرة السوداء، تفاقم الانقسامات الاجتماعية، وتشعل هذه الانتهاكات حالة من الغضب والاستقطاب داخل المجتمع، خاصة عندما تكون مرتبطة بخلفيات سياسية أو فئوية، مما يهدد النسيج الاجتماعي ويزيد من حدة الانقسامات. وطالما سبّبت ظاهرة الاختفاء القسري تأثيراً سلبياً على صورة مصر الدولية، إذ تُلطخ هذه الممارسات سمعة مصر على الصعيد الدولي، وتُعرضها للانتقادات والمراجعة من قبل المنظمات الدولية والحكومات الأجنبية، مما يؤثر على علاقاتها الدبلوماسية والاقتصادية، وهو ما أعلن عنه مراراً في محافل حقوقية دولية.
بخلاف أن ظاهرة الإخفاء القسري تمثل انتهاكًا للدستور والقوانين الدولية، إذ يُمثل الاختفاء القسري انتهاكًا صارخًا للدستور المصري، الذي يضمن حرية الأشخاص وعدم احتجازهم تعسفيًّا، كما يخالف المواثيق والمعاهدات الدولية التي وقعت عليها مصر، مما يضع الدولة في موقف محرج دوليًّا. وبينما تُرحب منظمات حقوق الإنسان، مثل مركز الشهاب لحقوق الإنسان، بعودة المختفين، لكنها تشدد على ضرورة الكشف عن مصير جميع المختفين قسرًا، وإغلاق هذا الملف نهائيًّا. تُطالب هذه المنظمات السلطات المصرية بالالتزام بتعهداتها الدستورية والقانونية والدولية، وتُشير إلى أن الاختفاء القسري جريمة مستمرة تُمثل انتهاكًا صارخًا لأبسط حقوق الإنسان.
وقال مركز الشهاب لحقوق الإنسان، في إعلانه عودة المختفين قسريًّا الثمانية، أخيرًا، إن حالات العودة القليلة، رغم أنها تبعث الأمل، يجب ألّا تُستخدم لتبرير استمرار هذه الممارسات. فالسبيل الوحيد لضمان السلم والأمن القومي المستدام هو إرساء دولة القانون التي تحترم حقوق جميع مواطنيها، وتُوقف نهائيًّا جريمة الاختفاء القسري.
ورغم الضغط الدولي المستمر، لا تزال تلك الظاهرة تتفاقم في المجتمع المصري. ففي تقريرها لعام 2024، ذكرت تقرير منظمة العفو الدولية "تعرض عشرات الأفراد للاختفاء القسري. وظل التعذيب وغيره من ضروب سوء المعاملة روتينيًّا. وأخضعت قوات الأمن، بما فيها جهاز الأمن الوطني، عشرات الأفراد المحتجزين لأسباب سياسية للاختفاء القسري لفترات تراوح من بضعة أيام إلى عدة أسابيع. ساد الإفلات من العقاب على خلفية عمليات القتل غير المشروع، والتعذيب، والاختفاء القسري، وغير ذلك من الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان المرتكبة في عام 2024 والسنوات السابقة".
وفي تقرير حقوق الإنسان في مصر لعام 2023 الصادر عن وزارة الخارجية الأميركية، تم التركيز على "عمليات قتل تعسفية أو غير قانونية، بما في ذلك القتل خارج نطاق القضاء؛ الاختفاء القسري؛ التعذيب أو المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة من قبل الحكومة؛ ظروف السجن القاسية والمهددة للحياة؛ الاعتقال التعسفي". وفي 20 فبراير/شباط من العام نفسه، أدانت ست مجموعات حقوق إنسان محلية بارزة، استخدام الحكومة للاختفاء القسري وفشل النيابة العامة في التحقيق فيها. جاء البيان بعد ظهور ما لا يقل عن 40 معتقلاً في نيابة أمن الدولة العليا، كانوا قد احتجزوا بمعزل عن العالم الخارجي لمدة تصل إلى ثلاث سنوات. ووفقًا لمجموعات حقوق الإنسان، تعرض العديد من المعتقلين للتعذيب أثناء احتجازهم لدى جهاز الأمن الوطني".
وفي 26 مايو/أيار 2024، نشر الفريق العامل التابع للأمم المتحدة المعني بحالات الاختفاء القسري أو غير الطوعي دراسة قدمتها "لجنة العدالة" (CFJ) خلال دورتها 128. وتفحص الدراسة العلاقة بين الانتخابات وحالات الاختفاء القسري في مصر، وتتحدث عن "تزايد حوادث الاختفاء القسري خلال فترات الانتخابات، خاصة عندما تكون هناك مؤشرات على زيادة النشاط السياسي أو حشد المعارضة، وتُستخدم أداةً للتخويف".

Related News


