"التحفة الفينيقية": وِسْ أندرسون مُفرطاً بذاته
Arab
5 hours ago
share

 

تُميَّز أفلام وِسْ أندرسون بسهولة: ألوان زاهية، وديكورات عتيقة، وقصة غريبة تُقسّم غالباً إلى فصول، وثرثرة طائشة، وشخصيات غريبة الأطوار. سمة مميّزة أخرى: إنّها تعجّ دائماً بكبار النجوم، حتى في أصغر الأدوار. هذه المرة، يؤدّي ببينيثيو دِل تورو، دورَ رجل الأعمال أناتول "زازا" كوردا، الفظّ والماكر: شخصية تُشبه هاورد هيوز (صناعي وطيّار ومنتج سينمائي أميركي). استعار المخرج اسمه الأول من نجمةٍ هوليوودية عريقة، واسم عائلته من مُنتج أفلام المغامرات الخيالية، كـ"الفيل الصغير" و"لصّ بغداد". ألهمت أجواءُ ألكسندر كوردا، الغريبة والحالمة، المخرج التكساسي هذه المرة.

رغم نجاته من كلّ محاولات اغتياله، قرّر زازا كوردا اتّخاذ الاحتياطات اللازمة، وترك إرثه لابنته الوحيدة، ليزل (ميا ثريبلتون، "صاحبة أجمل وجه قمري في العالم"، ابنة كايت وينسلت)، إلّا أنها تُصبح راهبةً، ولا ترغب (بدايةً على الأقل) في أي علاقة بالأب، الذي تشتبه في أنّه قتل والدتها. في النهاية، ترافقه في رحلة مثيرة، يزور خلالها معارف عديدين له، طالباً منهم الدعم المالي لتحقيق مشروع حياته، "كوردا لاند"، في الشرق الأوسط.

في هذه الرحلة، تظهر أيقونات التمثيل، واحدة تلو أخرى: توم هانكس، براين كرانستون، سكارليت جوهانسون، بنديكت كومبرباتش، وغيرهم، كما تضمّ هيئة المحلّفين، في الحكم النهائي، التي يداوم كوردا على تخيّلها، ربما بسبب شعوره بالذنب تجاه ماضيه، شارلوت غانسبور، ويظهر بِل موراي في دور الربّ. هناك أيضاً عالم الحشرات اللطيف وغريب الأطوار بيورن (مايكل سيرا)، الذي لا يكشف عن وجهه الحقيقي إلّا في وقتٍ لاحق من الفيلم.

تكمن قوة أفلام أندرسون (هذا ليس جديداً) في الشخصيات والمرئيات. كلّ ترتيب مثالي، وكلّ صورة تبدو لوحةً فنية. يمكن للمتفرّج الاستمتاع ببعضها بالتأكيد: منظور عين الطائر للحمام الرخامي، حيث يجلس كوردا في حوض الاستحمام مدخّناً سيجاره. اللقطات الواسعة مع بعض الشخصيات، التي تقف بالضبط حيث ينبغي أنْ تكون. تركيبات مثالية تذكّر أحياناً بلوحات عصر النهضة.

في ما يتعلّق بتطوير الشخصية، لا يمكن اتّهام المخرج بالضياع في الكليشيهات. على عكس ذلك، صُمّمت كلّ شخصية من شخصياته بطريقة تجعلك تقول: لم أرَ شيئاً مثلها من قبل. شخصية ليزل انقلاب ذكي على نحوٍ خاص: رداء أبيض، أحمر شفاه لامع، كف طاهرة لكنّها ليّنة في الوقت نفسه، مع ميل آثم إلى الترف يتعارض نسبياً مع التقشف الرهباني. غليون مرصّع بالأحجار الكريمة، ومسبحة باهتة ورخيصة، تُشوّه صورة التواضع، وتُحدث تأثيراً بصرياً قوياً.

 

 

هذه التفاصيل، البارعة للغاية، أبرز ما يميّز "التحفة الفينيقية". لكنّ الحقيقة أنّ المرئيات والشخصيات ليست كلّ شيء، إذْ هناك حاجة أيضاً إلى حبكة، وقصة تُروى، وحكاية تجعلك ترغب على الأقلّ في البدء بفهم سبب سردها. هنا، يُخيّب أندرسون الآمال قليلاً. فبينما تُطوِّر أفلام سابقة، كـ"فندق بودابست الكبير" (2014)، جاذبية سردية آسرة، رغم كلّ أسلوبيتها، كاشفةً عن عمق مظلم خفي وراء الشكلانية الظاهرة، يتوه المتفرّج قليلاً، باحثاً عن المعنى الأعمق. الحبكة (لا مجال للتجميل) مُملّة بعض الشيء. طبعاً، هناك مجدّداً روح الدعابة الأندرسونية، التي تزدهر على عبثية المَشاهد. لكنْ، حتى هذه الفكاهة تتلاشى بعد فترة. ربما تكون عناصر الكوميديا التهريجية مسألة ذوق، غير أنّها بالتأكيد لا تعوّض نقص العمق في الحبكة.

باختصار، يتجنّب وس أندرسون كلّ الكليشيهات في أفلامه، لكنّه لا يفلت من صنيعه في جديده هذا. كعادته، يُقدّم تركيبات بصرية تستحق العرض في المتاحف، وشخصيات أصلية بحق. لكنْ، للأسف، تبقى قصة رجل الأعمال، الساعي إلى ترسيخ إرثه، سطحية قليلاً. أكثر من أفلامه السابقة، تُشبه مشاهدة "التحفة الفينيقية" قراءة قصة مُصوّرة. فالإيقاع الثابت يُشبه تقليب الصفحات. غناه بالتفاصيل لا يُشعِر المتفرّج بالملل، بل لا يُثيره أيضاً. لا يُغيّر الحضور القوي لبينيثيو دِل تورو في الدور الرئيسي هذا الوضع، فهو الأبّ الأكثر إثارة للإعجاب في فيلمٍ لأندرسون منذ جين هاكمان في "عائلة تينينباوم الملكية" (2001)، أما الأبّ الحقيقي في الخلفية فهو المخرج نفسه (56 عاماً)، الذي ظلّت عائلته السينمائية البارزة وفيّة له فيلماً تلو آخر.

في المؤتمر الصحافي لـ"التحفة الفينيقية" في الدورة الـ78 (13 ـ 24 مايو/أيار 2025) لمهرجان "كانّ" (المسابقة الرئيسية)، أجاب أندرسون بثقة: "كلّ فيلم أصنعه يختلف عن الآخر. مع ذلك، هناك من يدّعي أنّه يُمكنه تمييزه بعد خمس ثوانٍ فقط من الإعلان الترويجي. لا أريد القول إنّهم لا يعرفون ما يتحدثون عنه. لكنّ، بالنسبة إلي، كلّ فيلم يختلف عن الآخر".

في الواقع، تتشابه أفلامه الأخيرة إلى درجة أنّ المرء يتساءل عمّا إذا كان سيتمكّن يوماً من إنتاج شيء مثل أعماله الباكرة النابضة بالحياة، كـ"راشمور" (1998) و"عائلة تينينباوم الملكية". إنّه محظوظ بعدم وجود مُزوّري أعمال فنية في هوليوود، وإلّا، فربما كان كلّ ما يتطلّبه أمر تهريب نسخة مُقلّدة من أندرسون إلى "كانّ" مجرّد ورق حائط من ماركة وس أندرسون، ومنظور رئيسي لحبكة لا تهمّ كثيراً في تفاصيلها.

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows