
تقول لقطة البثّ المباشر التي تظهر فيها مذيعة تلفزيون خبر الإيراني الرسمي، أول من أمس الاثنين، وهي تتحدّى القصف الإسرائيلي قبل أن يستهدف مبنى الإذاعة والتلفزيون، الكثير عن الحرب الإسرائيلية ــ الإيرانية. أول ما تذكّر به لقطة البث المباشر الرهيبة أنّ الإجرام الإسرائيلي يتفوّق على نفسه عندما يتفاخر القادة السياسيون والعسكريون في تل أبيب باستهداف المدنيين الإيرانيين الذين يريدون منهم أن ينقلبوا على النظام، وفي الوقت نفسه ينفذ وزير الدفاع الإسرائيلي يسرائيل كاتس وعده بتدفيعهم الثمن حرقاً وتهجيراً (مصطلحاه حرفياً). مذهلٌ كيف أنّ كاتس، في احتفائه بقصف مبنى الإذاعة والتلفزيون، أخبرنا بأنه بوق للنظام، بالتالي حلالٌ قصفه بمن فيه، وهذا من صنف الكلام الدموي الذي يبدو أنه يشترط أن يتقيأه كل من يتولى منصب وزير الدفاع في إسرائيل، فحرق طهران والتلفزيون وتدفيع المدنيين الثمن عند كاتس معادل لـ"الحيوانات البشرية" عند سلفه يوآف غالانت لدى افتتاح إبادة غزّة.
من بين ما تطرحه اللقطة التلفزيونية التي أصبحت الأكثر تداولاً منذ بدء الحرب، سؤال عن سبب عدم إخلاء السلطات ذلك المبنى بعد مرور نحو ساعتين من الوعد الإجرامي العلني لكاتس بمحوه من الوجود "بعد قليل"، على ما جاء في تغريدته عصر ذلك اليوم. سؤال موصول باستغراب عدم اتخاذ السلطات إجراءات وقائية ليل الخميس ــ الجمعة، مع أنّ القرار ببدء الحرب الإسرائيلية على إيران بالفعل، ليل 12 ــ 13 من الشهر الحالي، لم يكن سرّاً بل محدداً تاريخه منذ 12 إبريل/ نيسان، أي منذ 60 يوماً، ومن دونالد ترامب شخصياً، وقد أُبلغت الدول المعنية مسبقاً بموعد بدء الضربات على سبيل مزيد من التوكيد.
الجواب على السؤال والاستغراب ربما يتوفر في قوانين العالم الموازي الذي تعيش فيه القيادة الإيرانية ومناصريها، وهو عالم متخيَّل نواميسه مناقضة لما يسيّر العالم الحقيقي. عالم من ما ورائيات، أبطاله قوى خارقة أقوى من الصواريخ، قادرة على إزالة إسرائيل من الوجود، وفذلكتها اللغوية تستند إلى تأويل للكرامة يجعلها أيديولوجيا، بمضامين لا علاقة لها بمعناها القاموسي والمنطقي والعقلي، وإلا لما أخبرنا حسن نصر الله في أحد آخر خطاباته بأنهم "في الغرب، لا يعرفون معنى الكرامة" بكل الفظاعة التي يحملها تعميم الـ"هم" على مئات ملايين البشر. والكرامة بوصفها أيديولوجيا في العالم الإيراني المتخيّل وفي لغته وفلسفته، أهم ما في الحياة، لا بل أهم من الحياة نفسها، شرط أن تعني قناعةً بالحرب الدائمة وبالولاء لسلطة الثورة الدائمة وتصديرها، كرامة تجعل العبوس رجولة والفرح خطيئة والثقافة جريمة والغيب علماً والصراخ انتصاراً. في هذا العالم الموازي، الكرامة أقوى من الإجرام الإسرائيلي، وكأنها توفّر غطاءً سحرياً يحمي السيدة المذيعة وزملاءها في التلفزيون من أعتى صاروخ، ويجعل العلماء النوويين ينامون في أسرّتهم مطمئنين ليل 12 يونيو/ حزيران، وكذلك كبار قادة الحرس الثوري والجيش والاستخبارات، ويجتمعون بأعداد كبيرة في مقرّاتهم الرسمية.
أما وأنها حرب كرامة بالنسبة إلى طهران (بالإذن من جيل معركة الكرامة 1968)، فواجبة ملاحظة أن تلك الكرامة تركت ذلك البلد بلا أي حليف حتى في كوريا الشمالية. هي كرامة أوصلت إيران إلى الطلب من ترامب الضغط على إسرائيل لتوقف عدوانها في مقابل إبداء طهران مرونةً في المفاوضات النووية مع واشنطن. الكرامة تلك لم تحمِ إيران من إسرائيل وأميركا، ولم تزدها قوة، ولم تحقّق رفاه شعبها. ومثلما هو معلوم، ليس مهماً في مثل هذه الحالات من هو محقّ ومن هو مظلوم، المهم أن يعرف حكّام كل بلد قدراته ومحدودية قوته، وأن يتصرّفوا على هذا الأساس، بوصفهم مسؤولي دولة طبيعية عادية، وألا يوفروا ذريعة نووية أو صاروخية تأخذ بلدهم وشعبهم إلى الحرب والدمار والتهجير والتشرّد والفقر والذل، وتلك هي الكرامة الحقيقية في العالم الواقعي.

Related News

