
لم يعد النظام التونسي يعبأ بما يصدر من المنظّمات الإقليمية والدولية المتخصّصة في الدفاع عن حقوق الإنسان من بيانات إدانة لسياساته، فقبل أيّام قليلة، دعا المتحدّثُ باسم المفوضية السامية لحقوق الإنسان، ثمين الخيطان، السلطاتِ التونسية إلى "وضع حدّ لجميع أشكال اضطهاد المعارضين والنشطاء"، وطالب بأن "تضع تونس حدّاً لأنماط الاعتقال والاحتجاز التعسّفي والسجن، التي يتعرّض لها عشرات من المدافعين عن حقوق الإنسان والمحامين والصحافيين والنشطاء والسياسيين". وهو ما أثار حفيظة السلطة التي ردّت على ذلك بطريقة غير موزونة.
قرّرت الدائرة الجنائية بالمحكمة الابتدائية بتونس محاكمة المتّهمين بـ"التآمر على أمن الدولة" من بعد، أي من دون حضور المعنيين في قاعة المحكمة، وأيضاً في غياب عائلاتهم ووسائل الإعلام. وهو ما دفع رئيس الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، بسام الطريفي، إلى القول إن السلطات "تريدها محاكمةً سرّيةً في قاعة معسكرة، أبوابها موصدة من دون مواكبة من الرأي العام والصحافة والمواطنين وعائلات الموقوفين". وأضاف "يخشى القضاء مواجهة المساجين السياسيين المعتقلين، يخشى مواجهة الحقيقة، يخشى دحض سردية قرار ختم البحث المحرّر من قبل القاضي الذي فرّ بجلده، يخشون أجواء المحاكمات السياسية ومحاكمات الرأي".
ورفضاً لذلك كلّه، نظّمت عائلات الموقوفين ندوةً صحافيةً قرأت خلالها رسائل عدة مساجين سياسيين، أدانوا فيها السلطة بشكل مباشر، وأكّدوا تحدّيهم القضاء، ورفضهم وضعية الاستثناء التي يتعرّضون لها. كما انتشرت أخبار سجناء عديدين يشكون من أمراض عديدة وخطيرة، مثلما صرّحت زوجة السجين السياسي عبد الحميد الجلاصي المصاب بمرض السرطان.
لقد تحوّلت قضية "التآمر على أمن الدولة" فخّاً، تحاول السلطة التخلّص من شباكه بعدما طال أمد القضية، ولم تتوفر الأدلة الكافية والمقنعة لإثبات وجود جريمة تبرّر إلقاء رموز المعارضة في السجون مدّةً تجاوزت السنتَين، وهو ما دفع بالقاضي، الذي أدان المجموعة وأحالها على السجن إلى الفرار خارج البلاد، والإقرار بأنه فعل ذلك تحت الضغط. كما يتواصل إصدار الأحكام القضائية ضدّ رئيس حركة النهضة، راشد الغنّوشي الذي لا يزال مصرّاً على مقاطعة جلسات المحاكم.
طالت القضية وتشعّبت، ومعها ازدادت الشكوك، وتعقّدت الإجراءات، وضعفت المصداقية، وصمدت المعارضة، واستنفد المحامون جهودهم من أجل إثبات براءة موكّليهم، وحافظت العائلات على صمودها وكفاحها المتواصل من أجل إطلاق سراح أبنائها... ذلك كلّه جعل الرأي العام يطرح تساؤلات حول الخلفيات والأهداف التي تقف وراء هذه المحاكمة.
في هذه الأجواء المُحتقِنة، جازفت وزارة الخارجية بإصدار بيان وُصِف بالمتشنّج وذي صبغة دفاعية، إذ اتهم المفوضية بـ"المغالطات والانتقادات"، وهو ما زاد الطين بِلَّةً، وخلّف وراءه عشرات الأسئلة. كما اعتبرت الوزارة أن القضايا المرفوعة ضد المعارضين "تتعلّق بجرائم حقّ عام ولا علاقة لها بأنشطتهم السياسية والإعلامية". وأضاف البيان أن تونس "يمكن أن تُعطي دروساً لمن يعتقد أنّه في موقع يُتيح توجيه بيانات أو دروس"، فزادت بذلك الوزارة في تعميق عزلة النظام في الداخل والخارج، وضاعفت المسافة بين السلطة من جهة ومؤسّسات حقوق الإنسان العالمية من جهة أخرى، باعتبار أن المفوضية مؤسّسة تابعة للأمم المتحدة، وتحظى بثقة الجميع.
لا يمكن التكهّن بمعرفة النتائج السياسية التي ستترتب من هذه المحاكمة، التي سينظر فيها القضاء يوم 4 مارس/ آذار الحالي، لكن بالتأكيد سيكون لها تداعيات سلبية على السلطة. فإن صدرت على الموقوفين أحكام بالإدانة، رغم خلوّ ملفّ الإحالة من أدلة تؤكّد تهمة التآمر، فسيكون ذلك مدعاةً للقول إن النظام اعتمد الظنّ، وغلّب الاعتبارات السياسة على الحجّة والعدالة، في هذه القضية الكُبرى، للتخلّص من خصومه. وإذا برّأ القضاء ساحتهم، وأطلق سراحهم (احتمال يستبعده المحامون وعائلات المساجين)، فسيكون الخاسر في ذلك هو النظام، لأنه اعتمد على هذه القضية لتبرير انفراده بالحكم وبقائه في السلطة.

Related News

