
هاجسُ إسرائيل الأول وجودُها. شرعنة هذا الوجود، وصيانته من الزوال، وتصعيده وتوسيعه، كي يبقى. هذا كلّه من دون مراعاة لأيِّ اعتباراتٍ أو تواضعاتٍ دولية، وحتى من دون التزامٍ مضمونٍ بأيِّ معاهدات تبرمها (إسرائيل) مع دول المنطقة، ما دامت تستطيع ادّعاء أخطارٍ أمنية تهدّد أمنها. وهذه المواجهة الراهنة بين دولة الاحتلال وإيران تختلف عن تلك الاشتباكات التي حصلت بينهما منذ عملية طوفان الأقصى (في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023). فهذه المرّة لم يكن الهجوم الإسرائيلي على إيران (كلَّفها قياداتٍ عسكرية رفيعة) لدورها في دعم حركات المقاومة في فلسطين، أو لدعمها حزب الله في لبنان، أو لسائر القوى المتحالفة مع طهران في اليمن أو العراق، ولا ردّاً على هجمات إيرانية، بقدر ما هو ناجم عن استشعار إسرائيل خطراً وجوديّاً تمثّله إيران ومشروعُها النووي، السابق لـ"طوفان الأقصى" بسنوات، وغير متّصل به، بما يُعزِّز مكانة إيران في المنطقة والإقليم، وبما يُخلِّ وفق رؤية قادة دولة الاحتلال بمفهوم الردع، وهو الأداة الأمضى من أدوات حفظ وجودها وصيانته.
يد إسرائيل أكثر إطلاقاً في المنطقة من إيران وأفعالها أكثر تحلّلاً، والغطاء الأميركي الممنوح لها أزيد ديمومة ورسوخ
وبرغم إعفاء إسرائيل نفسها من تبعات امتلاك سلاح نووي، إذ هي غير منضمَّة إلى معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية، والمرجّح امتلاكها كمّيات كبيرة من الرؤوس الحربية النووية منذ عقود، فإنها ترى في امتلاك أيِّ دولةٍ من دول المنطقة سلاح دمار شامل إذناً يبيح لها مهاجمته، والقضاء على هذه القدرة، ولو كانت في طور المساعي، كما فعلت بمفاعل تمّوز العراقي النووي، الذي دمّرته بصورة كلّية (في السابع من يونيو/ حزيران 1981)، وحتى في حال كانت القدرة النووية محتمَلةً، أو مشتبهاً فيها، كما فعلت دولة الاحتلال حين اعترف جيشُها بتدمير مقاتلاته المفاعل النووي السوري في دير الزور (في السادس من سبتمبر/ أيلول 2007).
ولسنا بحاجةٍ إلى مناقشات مستفيضة عن الأبعاد الأخلاقية، والمشروعية المدّعاة، باستدعاء دور إيران في زعزعة استقرار المنطقة، إذ على الأقلّ، تشترك دولة الاحتلال مع إيران في هذه الصفة، بل إن يد إسرائيل أكثر إطلاقاً، وأفعالها أكثر تحلّلاً، والغطاء الدولي الأميركي الممنوح لها أزيد ديمومة ورسوخاً، بما يواكب أطماعها المغلَّفة بغلاف أمنها ووجودها، وما فعلته في لبنان منذ بدأت حربها العدوانية على غزّة، ثمّ ما فعلته في سورية بانتهاكاتها العدوانية منذ سقوط نظام بشّار الأسد، من تدمير للقدرات العسكرية، واحتلال مزيد من الأراضي، من دون أن تبدر من الحكم الجديد في دمشق أيّ بوادر تهديد، بل مع تكرار تأكيدات الرئيس السوري الجديد أحمد الشرع التزام دولته باتفاقية فكّ الاشتباك (1974)، المبرمة بإشراف الأمم المتحدة، وبقوة مراقبة أُممية مستندة إلى قرار مجلس الأمن 338، وقد جاء فيه أن "هذا الاتفاق ليس اتفاق سلام. إنه خطوة نحو سلام عادل ودائم". هذا فضلاً عن مواقف سورية جديدة تبدي استعداداً لعلاقات جوار تتجاوز اتفاقية فكّ الاشتباك.
ولسنا بحاجة أيضاً إلى استدعاء مواقف إسرائيل العدائية ضدّ دول عربية وقَّعت معها معاهدات سلام واتفاقيات مثل مصر، بتلاعبها باتفاقية السلام بينهما بعدما سيطرت على معبر رفح، ومحور صلاح الدين (فلاديلفي)، المنطقة العازلة التي ظهرت في إثر معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية (1979)، التي نصّت على إنشاء منطقة عازلة في طول الحدود بين الطرفَين. وكذلك الأردن، باستمرار تهديده من قادة دولة الاحتلال بـ"الوطن البديل"، من دون أن يعني ذلك التخلِّي عن أطماع إسرائيل في الأردن نفسه، وبتهميشها "الوصاية الهاشمية" على المسجد الأقصى، وفق ما تنصّ عليه الفقرة الثانية من المادة التاسعة في اتفاقية وادي عربة، التي أبرمتها إسرائيل مع الأردن عام 1994: "أن تحترم إسرائيل الدور الحالي الخاصّ للمملكة الأردنية الهاشمية في الأماكن الإسلامية المقدّسة في القدس، وعند انعقاد مفاوضات الوضع النهائي، ستولي إسرائيل أولوية كبرى لدور المملكة التاريخي في هذه الأماكن". وحتى الإمارات، حين مضت إسرائيل بعد اتفاقيات أبراهام (طبّعت العلاقات بين إسرائيل والإمارات والبحرين في 15 سبتمبر/ أيلول 2020 في البيت الأبيض)، في ضمِّ فعلي حثيث للضفة الغربية، برغم إعلان مسؤول إماراتي أن تطبيع بلاده العلاقات مع إسرائيل كان ضرورياً لمنع الإسرائيليين من فرض السيادة على أجزاء من الضفة الغربية المحتلة. ولم تبالِ إسرائيل بالبحرين، المنضوية في اتفاقات أبراهام، حين منعت وزير خارجيتها أخيراً من زيارة رام الله، ضمن عدد من وزراء خارجية دول عربية وإسلامية. هذه المواقف (وغيرها) إشارات للعقلية الاحتلالية وما فيها من تصوّرات أحادية دينية متطرّفة، وفي توصيفات دولية صريحة.
تتجاوز الرؤية الإسرائيلية السياسة السطحية إلى أرضيّاتها الفكرية والاجتماعية والتربوية والدينية، اي تغيير شعوب المنطقة بما ينسجم مع وجود إسرائيل "دولةً للشعب اليهودي"
وبكلمة أوضح، يأتي هذا الاستهداف الإسرائيلي لإيران ضمن دوافع أصيلة ومبيّتة، لطالما شكّلت سياسة إسرائيل (وتعزّزت) بعد الجرح الغائر الذي سببته عملية طوفان الأقصى في وجدان دولة الاحتلال، إثر الهزّة العميقة التي ضربت مؤسّسة الجيش، الذراع الأكثر أهمية، والركيزة الأخطر في حفظ الوجود، وتحقيق الردع، فكان لا بدّ من ارتدادات تتجاوز قطاع غزّة، وتتجاوز حركات المقاومة فيها، وفي فلسطين، إلى أيّ قوة في المنطقة، وفي الأولوية تلك القوة النووية المُحتمَلة في إيران، ولهذا لم تختلف الأحزاب السياسية والمؤسّسة الأمنية في إسرائيل على هذا الهدف، وهو ترجمة فعلية لأداة القوة الفائقة، وتظهيرها، بما يخدم فكر رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو وقادة اليمين الديني والقومي المتطرّف، وبما يفتح الطريق (فيما لو نجحوا في إجهاض القوة الإيرانية) نحو استكمال فصول السيطرة والتوسُّع في فلسطين، بما ينفذ إلى قلب المشروع الصهيوني، بالسيطرة المباشرة على الأراضي المحتلة عام 1967، وتحجيم الوجود الفلسطيني إلى ما يشبه مليشيا ياسر أبو شباب في قطاع غزّة، وتهويد المسجد الأقصى وتقويضه. وخارج فلسطين، بما يعيد صياغة وجه الشرق الأوسط وفق رؤية نتنياهو. وهي رؤية تتجاوز السياسة السطحية إلى أرضيّاتها الفكرية والاجتماعية والتربوية والدينية، ما يعني تغيير الشعوب العربية والإسلامية بما ينسجم مع وجود إسرائيل، بوصفها "دولة الشعب اليهودي"، وبوصف فلسطين أرضَ إسرائيل التوراتية.
