الركام القاتل... موت كامن تحت أنقاض منازل الغزيين
Arab
1 week ago
share

يخفي ركام المنازل المدمرة في قطاع غزة، أخطاراً عديدة إذ يحوي على كمائن متفجرة أعدها جيش الاحتلال قبل انسحابه، تضاف إلى القذائف وبقايا الأسلحة الخطرة، وجثث المفقودين المتحللة التي تهدد العائدين بكارثة صحية وبيئية.

- توقف الأربعيني الغزي محمد جمعة وأشقاؤه عن تحطيم الكتل الخرسانية ورفع الطوب من محيط منزله المُدمر في حي تل السلطان غرب مدينة رفح، جنوبي القطاع، لدى عثورهم على مقذوفين غير منفجرين، أحدهما من بقايا قذيفة دبابة، والآخر عبارة عن جزء من قنبلة، وبسبب الخشية من انفجارهما أوقفوا عملية إزالة الأنقاض وأبلغوا جهات الاختصاص، التي عجزت عن استخراج الجسمين بسبب الافتقار إلى المعدات التي تمكنها من التعامل مع الخطر الكامن تحت الركام، وهو ما جرى مع 135 بلاغا من أصل 270 بلاغا، تلقاها قسم هندسة المتفجرات في مدينة رفح، منذ سريان التهدئة في التاسع عشر من يناير/كانون الثاني، وحتى 13 فبراير/شباط الماضي، إذ كانت "المتفجرات على عمق كبير يصعّب عملية التعامل معها عبر أجهزة ليست متوفرة في القطاع وفرق مُتخصصة استهدفها الاحتلال خلال الحرب ولم تعد بنفس الإمكانيات السابقة، لذلك يتم تحذير السكان وتسجيل المنزل كنقطة عالية الخطورة"، كما يوضح النقيب محمد مقداد، رئيس قسم هندسة المتفجرات بمحافظة رفح.

 

50 مليون طن من الركام

ينتشر 50 مليون طن من الركام في محافظات القطاع الخمس، جراء حجم الدمار الواسع الذي طاول المباني والبنية التحتية التي استهدفها الاحتلال وفق بيانات مدير عام المكتب الإعلامي الحكومي في قطاع غزة إسماعيل الثوابتة، الذي قال لـ"العربي الجديد": "عملية إزالة هذا الكم المهول من الأنقاض تشكل تحديا كبيرا يتطلب جهودا وموارد ضخمة، ولا تستطيع دولة ولا دولتان القيام بذلك، نحتاج إلى تحالف عربي أو دولي من أجل التخلص منه".

وبحسب تقديرات الحكومة، فإن إزالة الركام والأنقاض تكلف حوالي مليار دولار، وهي عملية معقدة في ظل وجود تحديات أمنية وبيئية مرتبطة بالعملية التي تتطلب معدات ثقيلة ومتخصصة، بالإضافة إلى فرق عمل مدربة للتعامل مع مخاطر وجود ذخائر غير منفجرة وملوثات بيئية، وجثامين مُتحللة، أو بقايا مواد كيميائية نتجت عن انفجار الصواريخ، وكذلك أجسام مفخخة، ويتفاوت الخطر في مناطق القطاع المختلفة، "لكن رفح وحدها يوجد فيها نحو 15 مليون طن من الركام"، كما يؤكد رئيس بلديتها الدكتور أحمد الصوفي موضحاً أن نحو 90% من الوحدات السكنية في المدينة طاولها الدمار، فيما تعرضت 52 ألف وحدة سكنية لأضرار متفاوتة.

موت كامن تحت الأنقاض

يخفي الركام كميات كبيرة من المخلفات الحربية الخطرة، منها قنابل مُسقطة جوا من نوع MK أميركية الصنع، من طراز 84، و83، و82، و81 ويراوح وزن الواحدة منها بين 250 كيلوغراما و1000 كيلوغرام، إضافة لقذائف مدفعية، وصواريخ موجهة، ومتفجرات لينة "على شكل عجينة"، وأخرى سائلة موجودة في "غالونات"، وألغام تُستخدم لنسف المنازل، وذخائر مُتعددة الأحجام، جرى رصدها والتعامل مع بعضها منذ بدء اتفاق التهدئة وفق ما أكده مقداد، قائلا إن : "50% من المنازل المُدمرة في رفح وباقي أنحاء القطاع، تتسم بالخطورة العالية بسبب وجود تلك الأجسام، كما أننا لم نصل إلى مناطق واسعة في جنوب ووسط رفح، بسبب استمرار وجود الاحتلال على طول محور صلاح الدين - فيلادلفيا".

كميات كبيرة من المخلفات الحربية غير المنفجرة بين الأنقاض

وخلقت الفراغات التي خلفتها الصواريخ والقنابل التي اخترقت أعماق الأرض حتى مسافة 30 مترا حفرا في التربة قد تعيق عمل الآليات الثقيلة في مهمة رفع الركام، إذ يتسبب ثقل الآليات باختلال الأرض التي حدثت فيها فراغات، وبالتالي انهيارها، وربما سقوط الآلية في الحفرة، وهذا جزء من التحدي المستقبلي، الذي لا تستطيع الجهات الحكومية والخدمية في غزة معرفة حدوده، أو أماكن وجوده، بحسب إفادة مدير الإمداد والتجهيز في الدفاع المدني، محمد المغير.

وسُجلت إصابات في حادثتي انفجار مُعلبات مواد غذائية، إذ يتعمد جيش الاحتلال تفخيخها وتركها بين المنازل لتنفجر حال تحريكها أو فتحها، وفق المغير، كما تضاف الكتل الخرسانية المعلقة، والمنازل الآيلة للسقوط في كل مناطق القطاع إلى جملة المخاطر التي تهدد حياة الغزيين بعد الحرب.

 

جثث ومُرّكبات سامة

يضم الركام نحو 14 ألف جثة لا يمكن التعامل معها بسبب تكدس طبقات من الأنقاض، ويقتضي رفعها الحصول على معدات حديثة، وبروتوكولات طبية دقيقة، ويوضح الطبيب مروان الهمص، مدير عام المستشفيات الميدانية بوزارة الصحة في غزة، المخاطر التي تتربص بالمواطنين نتيجة ذلك إذ تحول القطاع إلى بيئة ملوثة وخطرة صحيا، كون الجثث تحفز نمو البكتيريا والجراثيم التي تسبب انتشار الأمراض خاصة التنفسية والجلدية، وربما تكون سببا لانتشار بعض الأوبئة، وتتسبب في انبعاث غازات سامة أثناء تحللها، ويقر باحتمالات انتقال أمراض عن طريق التلوث العكسي، الذي يحدث بسبب تجاهل الاحتياطات الطبية اللازمة لدى التعامل مع الجثث، نتيجة عدم إلإلمام بأساليب الوقاية والتعامل مع الجثامين أثناء محاولات إزالة الركام من محيط المنازل.

مخاطر صحية وبيئية كبيرة جراء وجود 14 ألف جثة تحت الأنقاض

ووفق الهمص ومقداد يحوي الركام غازات ومركبات كيميائية شديدة السمية، مثل غاز أول وثاني أوكسيد الكربون، ومسحوق الألومنيوم السام، والمعادن الثقيلة مثل الكوبالت، النحاس، الزئبق، الزنك، الكادميوم، الكروم، الفوسفور، وهي مخلفات تنتج عن القذائف والصواريخ لدى انفجارها، وتصنف كيميائيا على أنها مواد سامة صعبة الهدم البيولوجي وبحاجة لسنوات طويلة حتى تتفتت وتتلاشى من الطبيعة، ما يعني بقاء خطرها في البيئة لسنوات وربما لعقود، خاصة أن غبار مواد البناء، المتطاير خلال العمل على إزالة الأنقاض يحركها وينشرها بين المتعاملين مع الركام، ما يؤثر على صحة الجهاز التنفسي ويتسبب بأمراض جلدية منها ظهور حبوب وبثور في أصابع اليد وحدوث طفح جلدي، وبالفعل بدأ الأطباء يلمسون أثرها من خلال زيادة ملحوظة في عدد المترددين على المستشفيات والعيادات تجاوزت المعدل الطبيعي بـ 20% مقارنة بنهاية العام الماضي، وهذه النسبة آخذة بالتزايد منذ بدء اتفاق التهدئة وعودة المواطنين إلى بيوتهم.

ويحذر الهمص من أمراض لا تقل خطورة تنتج عن الشظايا المدفونة في الركام، والتي يمكنها أن تخترق الجلد وتتسبب بجروح خطيرة، تؤدي إلى التهابات جرثومية يصعب علاجها، و"هذا جرى رصده مؤخرا".

 

كمائن في بقايا المنازل

رصد خمسة غزيين يقطنون حي تل السلطان، وضع جيش الاحتلال عبوات ناسفة، وربط صواعقها ببقايا الأثاث داخل المنازل المدمرة، حتى تنفجر بمجرد تحريك هذه الأجسام ليقتل العائدون الذين يؤمون بيوتهم مباشرة لتفقدها بعد شهور العدوان الطويلة.

ومن بين شهود العيان على ما سبق، المواطن محمود العبسي أحد سكان الحيّ، الذي استشهد جاره عند دخوله صباح أول أيام الهدنة إلى منزله، بعد محاولته سحب أثاث المنزل، وتوصلت الجهات المختصة إلى أن الجيش الإسرائيلي أعد فخا قاتلا في المنزل، وهو ما يؤكده النقيب مقداد، موضحا أنهم يتعاملون بحرص شديد مع كل إشارة على وجود أجسام خطرة، وأفشلوا محاولتين لتفجير أجسام أعدت بإحكام لقتل العائدين، وفككوا الشراك بنجاح، كما حددوا 1000 نقطة خطرة في رفح وحدها يُمنع الناس من الاقتراب منها.

 

أخطار متوقعة

قد تشهد الأشهر والسنوات المقبلة ظهور كوارث صحية وبيئية، جراء المواد السامة المختلطة بالركام، والتي قد يكون منها مواد خطيرة مثل اليورانيوم المنضب، ما قد يؤدي إلى ارتفاع الإصابة بأمراض السرطان، والفشل الكلوي، وظهور طفرات جينية ووراثية خطيرة في المزروعات، وولادة أطفال مشوهين، وارتفاع نسب العقم، والولادات المبكرة، وغيرها من الكوارث التي تنتظر سكان القطاع، بحسب إفادتي الهمص والمهندس نزار الوحيدي، المدير العام السابق لدائرة الإرشاد الزراعي في وزارة الزراعة، محذرا من تحول الركام إلى بيئة للجرذان والزواحف، التي تُعد ناقلة لأمراض خطرة، منها الطاعون، وتتسبب بانتشار حشرات طفيلية، وما يزيد الأمر سوءا تدمير شبكات الصرف الصحي وبدء انسياب المياه العادمة وتجمعها تحت أكوام الركام، بحيث تختلط بالمخلفات السامة للقذائف، وتتسرب للمخزون الجوفي، ما يفاقم خطر تلوثه.

كما أن هذه الأكوام تتحول مع مرور الوقت لمكبات للنفايات، في ظل غياب المنظومة المتكاملة للتعامل معها من عمال نظافة، وحاويات للقمامة، بحسب الوحيدي موضحاً أن العيش في محيطها، له أضرار كارثية، ناهيك عن الأثر النفسي الخطير للعيش وسط بيئات مُدمرة، لما له من انعكاسات سلبية على الصحة النفسية للمواطنين، وهذا يرتدّ سلباً على الصحة الجسدية أيضا.

وبالفعل رصد مُعد التحقيق خلال جولة ميدانية شملت عدة مناطق في جنوب ووسط القطاع، تحول أكوام الركام إلى أماكن تجميع للنفايات، بخاصة في وسط خانيونس، ومنطقة "شارع 5" في نفس المحافظة، إذ تتناثر النفايات الصلبة في كل جانب، وبحسب تأكيد خمسة غزيين بينهم المواطن أحمد موسى، فإن غياب فرق النظافة وعدم وجود حاويات للتخلص من النفايات الصلبة، يدفع الناس إلى التخلص منها بإلقائها فوق الركام، وهذا يخلف آثارا صحية ونفسية سيئة، وأسهم في انتشار البعوض حتى في ظل الأجواء الباردة، وساهم في زيادة عدد القوارض التي باتت تغزو الخيام والمنازل، وتتخذ من الركام بيئات للتكاثر.

 

احتياجات إعادة الإعمار

منذ بدء التهدئة تلقى الدفاع المدني في غزة، 20 إخطارا بانفجار أجسام مشبوهة، خلفت 10 شهداء و50 جريحا، عدا عن مئات البلاغات بوجود أجسام خطرة في المناطق التي كانت خاضعة للاجتياح، بحسب المغير.

ويقرن المهندس أسامة كحيل، الرئيس السابق لاتحاد المقاولين في قطاع غزة، بين عمليتي إزالة الركام وإعادة الإعمار مؤكدا أنه لا تنفصل الواحدة منهما عن الأخرى، لذا يجب تقسيم قطاع غزة إلى عدة مناطق، وما أن ينتهي رفع الركام من منطقة حتى يبدأ فورا العمل فيها عبر إنشاء البنية التحتية، ولذا لا بد من توفير آليات ثقيلة وفرق متخصصة داخل القطاع، بحسب كحيل الذي يفضل سيناريو إعادة تدوير الركام، وتحويله إلى حصى يستخدم في صناعة الطوب لبناء المساكن، وكذلك حجر الجبهة، الذي يتم وضعه على جانبي الطرقات المُعبدة، كما يمكن إدخال المخلفات في عملية رصف الطرقات، وكذلك إعادة استخدام حديد البناء لإنشاءات خرسانية جديدة، ما يُسهم في التخلص من جزء من الركام، ويرفع عبئًا كبيرًا عن المعابر، التي ستُدخل مواد البناء لاحقا، إذ إن إدخال الحصى الجديدة سيضغط عليها، ويُخرج الكثير من الشاحنات التي تحتاجها عملية رفع الركام عن الخدمة، على اعتبار أن الحصى هي الجزء الأثقل والأكثر استخداما في عملية البناء. كما يمكن استغلال الركام في توسعة ميناء غزة، وربما ردم مناطق من البحر، لكن الثوابتة يؤكد أن الجهات الحكومية المُختصة ما زالت تعكف على إعداد خطط للتخلص من الركام بطريقة آمنة، وإعادة استخدامه، إلا أن تنفيذ هذه الخطط مُتعلق بإدخال المعدات الثقيلة اللازمة، إضافة لوصول فرق مُختصة، والاحتلال مازال يمنع وصولها، مشيرا إلى نجاح الجهات الحكومية في التخلص من ركام الحروب السابقة، وتعاونها مع السلطات المصرية التي أرسلت آليات ثقيلة بعد عدوان 2021، وهو ما يتمناه جمعة الذي يقطع السعال حديثه بشكل متكرر، مشيرا إلى أن الصداع يلازمه منذ أن عمل لأكثر من أسبوع بحثا عن حاجيات عائلته القابعة تحت أنقاض وركام المنزل الذي تعرض للتدمير، كالملابس والأغطية، وخلال تلك الفترة استنشق الغبار الملوث باستمرار، ما أثر على حالته الصحية المتردية أصلا بسبب الحرب.

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows