
لطالما كان سؤال القلق شاغلاً عند المحلّلين النفسيّين والباحثين في حقول العلوم الاجتماعية. لكن ما الذي يُمكن أن يُقال بعد فرويد وكيركغارد اللذَين يُعدَّان من أبرز المشتغلين على هذا الموضوع، حتى عام 1950، حين حاول عالم النفس الأميركي رولو ماي (1909-1994) أن يقرأ هذه الظاهرة في كتابه "معنى القلق وطبيعته الثقافية والنفسية والبيولوجية"، فتحوّل عمله، منذ ذلك الحين، إلى واحد من أهم الكلاسيكيات البحثية ضمن هذا التخصّص.
بتوقيع المترجم بندر الحربي، صدرت حديثاً، عن "دار الرافدين" في بغداد وبيروت، طبعة عربية من كتاب رولو ماي، متوزّعة على ثلاثة أجزاء تتضمّن 12 فصلاً (495 صفحة)، درَس فيها الباحث الأميركي الكيفية التي يؤثّر فيها القلق بالجوانب النفسية، والسياسية، والاقتصادية، والمهنية، والاجتماعية، متتبّعاً تأثيره في مجالات الفنّ الحديث، والشعر، والفلسفة، والدين، ومساهمته في تطوير القدرات العقلية للإنسان.
يحمل الجزء الأول من الكتاب عنوان "التفسيرات الحديثة للقلق". يبدأ رولو ماي بدراسة هذه الظاهرة النفسية خلال منتصف القرن العشرين. يستعرض في هذا القسم أبرز الفلاسفة والمفسرين الذين تناولوا موضوع القلق من منظور فلسفي، مسلطاً الضوء على الأفكار التي حاولت فهم هذا الشعور العميق والمعقد. بعد ذلك، ينتقل إلى استعراض التفسيرات البيولوجية والنفسية للقلق، مع إبراز مواقف المعالجين النفسيين تجاهه. ويختتم هذا الجزء بتخصيص الفصل الأخير لمناقشة الجانب الثقافي وتأثيره على طبيعة القلق وكيفية ظهوره في المجتمعات المعاصرة.
في هذا الجزء (سبعة فصول) يجد القارئ نفسه أمام مجموعة من المحاولات العلمية والفلسفية التي تهدف إلى الإجابة عن العديد من الأسئلة المتعلقة بالقلق، من خلال الجمع بين النظريات المتعددة التي تناولت هذا الشعور. تكمن أهمية هذه المقدّمات في كشفها عن العناصر المشتركة بين تلك النظريات المختلفة، وتقديم النتائج بطريقة واضحة ومبسطة، لا تقتصر فائدتها على المتخصصين فقط، بل تمتد لتشمل المهتمّين باستكشاف الأبعاد النفسية لهذا الشعور الغامض الذي يرافق الإنسان في عصرنا الحديث.
في الجزء الثاني "التحليل السريري للقلق"، ينتقل الباحث إلى جانب تطبيقي مُضيئاً عدّة حالات يمكن من خلالها التمييز بين أشكال مختلفة للقلق، فيتوقف مثلاً عند الأمّهات غير المتزوجات، ويُدرج مقتطفات من التشخيصات العلاجية التي قدّمها خلال مسيرته الطبّية. أمّا الجزء الثالث من الكتاب فيُخصّصه لـ"إدارة القلق"، موضّحاً الطُّرق التي تُساعد على تجاوز هذا الشعور، رابطاً إيّاها بقدرة الذات الإنسانية على التطوّر.
يُعتبر رولو ريس ماي من أبرز مؤسسي علم النفس الوجودي. تخصص في دراسة القلق والوجود الإنساني، ودمج بين الفلسفة الوجودية وعلم النفس لتقديم رؤى جديدة في فهم النفس البشرية. درس في عدة جامعات مرموقة وحصل على شهادة الدكتوراة في علم النفس الإكلينيكي. تأثر بأفكار ألفريد أدلر والفيلسوف بول تيليش. من أشهر مؤلفاته: "بحث الإنسان عن نفسه" (1953)، و"الحب والإرادة" (1969)، و"شجاعة الخلق" (1975).
