
لا يعلو في شوارع غزة المظلمة تحت صمت الليل الثقيل سوى صوت أقدام متعبة تقف في مجموعات كبيرة أمام مراكز توزيع المساعدات، وعلى مفترقات الطرق بحثاً عن كيس طحين أو معلبات وموادّ غذائية تسدّ رمق يوم جديد من الصبر.
يتزاحم عشرات آلاف الرجال والشبان وحتى الأطفال لطلب طعام، سواءً قرب أحد مراكز التوزيع غير الآمنة أو الطرقات الفرعية لمرور الشاحنات، أملاً في أن يجود الطريق عليهم بشيء من الغذاء. ورغم التعب الشديد الذي يرافق منتظري المساعدات، لا يخلو الموقف من المخاطر الكبيرة جراء الاستهداف المتواصل من الاحتلال الإسرائيلي لمحيط مراكز التوزيع، أو حتى نقاط انتظار المساعدات، ووصل عدد الضحايا في مجموعات الجائعين، وفق المكتب الإعلامي الحكومي في غزة، إلى 300 شهيد و2650 مصاباً و9 مفقودين.
تبدأ التجمّعات أحياناً في منتصف الليل، إذ يسير الناس في عتمة موحشة وسط أزقة ضيقة، ويحمل بعضهم كراسي بلاستيكية كي يقضوا عليها ساعات الانتظار، وكأنهم في موعد مع قدر لا يرحم. وفي هذا الوقت، لا يُسمع سوى همسات الخوف من قذيفة طائشة، أو نظرة أمنية عابرة، أو حتى شجار على الدور والسلع.
ناهيك القصف والاستهداف، يُهدّد خطر آخر مَن ينتظرون المساعدات يتمثل في قطاع الطرق واللصوص والبلطجية الذين يسلبون وينهبون ممتلكات المواطنين، وأيّ مساعدات محدودة تطلبت مجازفات للحصول عليها. ويعمّق الخطر المحدق بمن تقطعت بهم السبل حدّة المجاعة التي باتت تفتك ببطون فلسطينيي غزة، جرّاء إغلاق المعابر منذ بداية الحرب في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، وثمّ تشديد الحصار منذ الثاني من مارس/ آذار الماضي.
فعلياً؛ تحوّلت المساعدات الإنسانية والحصول عليها من طوق نجاة يعين الناس على واقعهم الصعب إلى فخ محكم لاصطياد الضحايا، سواءً من خلال النيران الإسرائيلية المباشرة، أو تلك للعصابات واللصوص والعملاء والمجموعات المسلّحة المشبوهة. وفي المناطق القريبة من الحدود أو المواقع الأمنية يمكن أن يُشتبه في أيّ تجمّع، وقد يحدث ما لا يحمد عقباه في ظل حالة عامة من المضايقات أو فقدان الأمان والأمل.
وقبل أن تتحوّل إلى فخ، شكّلت المساعدات وسيلة لـ"فقدان الكرامة" عبر إجبار الناس على الاصطفاف ساعات من أجل كيس أرز أو كوبونات لا تسمن ولا تُغني من جوع، وذلك تحت البرد القارس ليلاً أو حرّ الشمس اللاهبة نهاراً، وأحياناً خلال القصف والغارات الجوية التي لا تفارق سماء غزة. يقول فادي محمد (28 عاماً) لـ"العربي الجديد: "شاهدت الموت بعينَيَّ خلال انتظاري المساعدات مراتٍ عدّة، سواءً جنوب القطاع أو وسطه، بفعل إطلاق النار المتواصل من الآليات الإسرائيلية، وطائرات كواد كابتر المسيّرة. أقطع مسافات طويلة يومياً أملاً بالحصول على طحين أو فتات مساعدات لكن دون جدوى، وفي المرة الوحيدة التي حصلت فيها على بعض المعلبات فقدتها تحت تهديد السلاح الأبيض"، ولفت أيضاً إلى أنه تعرض لسقوط شباك حديدية ثقيلة عليه بفعل تدافع الناس، وتسبب مرور ناس فوق الشباك في وفاة رفيقه وإصابته هو بضيق شديد في التنفس، جراء التدافع، وكدمات في أنحاء مختلفة من جسمه.
وقال خليل عبد الباري لـ"العربي الجديد": "لم أتخيّل يوماً أن أترك فراشي ليلاً للخروج مع جيراني من أجل توفير رغيف خبز. دفعتنا الأوضاع الصعبة والمجاعة الحقيقية التي نعاني منها جميعاً إلى المجازفة والمخاطرة بأرواحنا لتوفير لقمة العيش"، وتحدث أيضاً عن الواقع المأساوي في قطاع غزة، جراء تدمير كل شيء، وفقدان مصادر الدخل وضياع المشاريع وفرص العمل، في وقت تضاعفت أسعار المواد الغذائية عشرات المرات، ما جعل المواطنين عاجزين عن توفير أبسط احتياجاتهم. وأشار إلى أن الخروج لانتظار مساعدات لا تصل أمر محفوف بالمخاطر في مواجهة الاحتلال والعصابات، وقال: "نخرج وأرواحنا على أكفّنا، لكننا لا نملك أي خيار آخر لتوفير طعام لأسرنا".
وخلال جلوسه على حجر قرب مدرسة استُخدمت مركزاً لتوزيع مساعدات، قال حسن أبو راجي لـ"العربي الجديد": "كانت المساعدات الشحيحة تخفّف ولو قليلاً الأعباء على مُعيلي الأسر، أما فقدانها بالكامل فعمّق الأزمة"، ولفت إلى مدى صعوبة رحلة انتظار المساعدات التي وصفها بأنها "رحلة موت إجباري في ظل انعدام فرص توفيرها طبيعياً، أو شرائها بأسعار تتناسب مع الأوضاع الاقتصادية المتردية، وقال: "نخرج بعد صلاة العشاء بأمل الحصول على كيس طحين أو مواد غذائية، ونعود فارغي الأيدي. وفي ما يتعلق بالمخاطر يسيطر الخوف في ظل إطلاق النار الدائم والتهديد المتواصل، وهذا أمر يكسرنا ويشعرنا بعجز".
وحوّلت كل عوامل الخوف والخطر الانتظارَ من أمر عابر إلى جزء من معاناة يومية، تشبه كثيراً الحرب لكن بلا صوت قنابل، فهو صراع الكرامة مع الحاجة، وصراع الإنسان مع ظروف صنعت منه "مُنتظراً دائماً".

Related News


