
تشهد محافظة السويداء جنوبي سورية منذ سنوات تحولاً مناخياً قاسياً أثر على المشهد الزراعي فيها، وجعله يقترب من الصفر، فيما تدنى هذا الموسم تحت وطأة موجة جفاف غير مسبوقة عصفت بالبلاد. هذا التراجع الحاد ليس مجرد نكسة موسمية، بل هو ناقوس خطر يدق بقوة، محذراً من تهديد وجودي للمواسم الزراعية في السنوات القادمة. وكشف مدير دائرة الزراعة في السويداء، مالك الحلبي، في حديثه مع "العربي الجديد" أن ما نسبته 90% من مجمل الأراضي الصالحة للزراعة في محافظة السويداء تعتمد بشكل كلي على الزراعة البعلية، مرجعا ذلك إلى ضعف الإمكانات المادية واللوجستية التي تحول دون التحول نحو الزراعات المروية على نطاق واسع.
محاصيل استراتيجية على حافة الهاوية
ويُعد القمح والشعير والحمص العمود الفقري للزراعات الحقلية والموسمية في السويداء، وهي الآن الزراعات التي باتت الأكثر تضرراً، بحسب الحلبي، والذي أوضح؛ أن محصول القمح عادة ما يُزرع على مساحة تتراوح بين 30 و35 ألف هكتار ضمن دورة زراعية ثلاثية (قمح، حمص، سبات مخدوم). مضيفاً؛ أنه في السنوات ذات الهطولات المطرية الجيدة، يصل إنتاج المحصول إلى حوالي 30 ألف طن، مشيراً إلى أن واقع هذه الزراعات خلال الخمس سنوات الماضية بين عامي 2019 و 2024 كان قاسياً، حيث انخفض متوسط الإنتاجية إلى نحو 13 ألف طن فقط، مردفاً؛ أن السنتين الأخيرتين شهدتا أسوأ الانخفاضات بسبب شدة الجفاف.
وأوضح الحلبي في حديثه لـ "العربي الجديد" أن محصول القمح يحتاج إلى ما بين 240 و250 ملم من الأمطار لينتج الدونم الواحد ما بين 150 و200 كيلوغرام في الظروف المثالية، وهو ما لم يتحقق في آخر موسمين. فيما بلغ متوسط إنتاج الشعير خلال السنوات الخمس الماضية وبرغم الجفاف حوالي 7.5 آلاف طن. وتوقع الحلبي أن يقترب إنتاج هذه المحاصيل الاستراتيجية للموسم القادم من الصفر، إذا ما استمرت موجة الجفاف القاسية.
علي الحلبي مزارع من الريف الغربي يعتمد على زراعة المحاصيل الحقلية، قال لـ"العربي الجديد": "أعمل في زراعة القمح والشعير منذ أربعين عاماً، ولم أشهد موسماً كارثيا مثل هذا العام. أمطار لم ترو حتى قشرة الأرض". وأردف في السنوات الثلاث الأخيرة، انخفض إنتاجي إلى ما دون التكلفة، لكن الموسم الحالي هو الأسوأ. مساحة 70 دونماً من الحمص بالكاد تعيد كمية البذار التي زرعتها. حاولت الاعتماد على الري التكميلي، لكنني أحتاج لأربع ريات بتكلفة تتجاوز 100 ألف ليرة للخزان الواحد، وهذا مستحيل. حتى رش الآفات لم أقم به لأن لا شيء يستحق الرش. خاتما؛ "المأساة أن سبات الأرض أصبح تهديداً دائماً، وليس حلاً مؤقتاً".
ولا تقتصر الأزمة على المحاصيل الحقلية، بل تمتد لتمس الأشجار المثمرة التي تشكل ركيزة اقتصادية هامة. حيث تبلغ المساحة الإجمالية للأشجار المثمرة في السويداء وفقاً لإحصاىيات مديرية الزراعة؛ حوالي 42 ألف هكتار، منها 39 ألف هكتار بعلية، وحوالي 3 آلاف هكتار فقط مروية. وتشغل أشجار التفاح، المصدر الرئيسي للدخل لحوالي إحدى عشرة ألف أسرة، مساحة 16 ألف هكتار، وتنتشر في المرتفعات العالية ومنطقة ظهر الجبل بعدد يقدر بـ 3.5 ملايين شجرة. تليها أشجار الكرمة (العنب) الموزعة على 10 آلاف هكتار بعدد يصل إلى 4.7 ملايين شجرة. ثم الفستق الحلبي على مساحة 675 هكتاراً بعدد أشجار يقارب 104 آلاف شجرة.
وتنتشر أشجار الزيتون، التي تحتاج إلى 400 ملم على الأقل من الأمطار لتؤتي ثماراً مقبولة، على مساحة 10 آلاف هكتار تقريباً، بعدد أشجار يبلغ مليوناً ونصف المليون، توجد في المناطق الداخلية والحدائق المنزلية وبعض مشاريع مناطق الاستقرار. وتشغل اللوزيات (الخوخ، الجارنك، اللوز، الدراق، الكرز) مساحة إجمالية تقدر بنحو 4 آلاف هكتار. أما الأراضي التي تحتوي الأشجار المروية وتتراوح مساحتها بين 2.5 و3 آلاف هكتار، وهي عبارة عن أشجار مثمرة وقزمية مستوردة ذات إنتاج سريع وعائد اقتصادي مرتفع، فبدأت بالإنتاج منذ عشر سنوات تقريباً. ويلجأ المزارعون لزراعتها نظراً لسرعة دخولها مرحلة الإنتاجية، وجودة مواصفاتها مثل الحلاوة، والطعم، واللون التي تجعلها مناسبة للتصدير.
يقول يوسف النجم مالك بستان تفاح وزيتون منطقة ظهر الجبل لـ"العربي الجديد"؛ إن "بستاني الذي ورثته عن أبي يضم 500 شجرة تفاح و200 زيتونة، وهو مصدر دخل أسرتي الوحيد". موضحا؛ في السنوات الجيدة، كنت أجني 20 طناً من التفاح، لكن الإنتاج انخفض إلى أقل من 5 أطنان خلال السنتين الماضيتين. الزيتون يحتاج موسم مطر جيد، والأمطار لم تكن كافية هذا العام، ولا فائدة من إنفاق المال على أشجار بلا ثمار. كما أن التحول للأشجار المروية المستوردة مثل القزمية حلٌ بعيد المنال، لأن تكاليف القلع وإعادة الزراعة خيالية هذه الأيام.
تحديات متراكمة وإمكانيات محدودة
تأثرت كل هذه المحاصيل والأشجار بشدة بالجفاف وقلة الأمطار خلال السنوات الخمس المنصرمة. وأصبح تعويض النقص الحاصل تحدياً كبيراً يواجه الفلاحين ودائرة الزراعة على حد سواء. وأوضح الحلبي أن برنامج مكافحة الآفات الذي تضعه الدائرة سنوياً، والمحدد بأوقات انتشار الحشرات، يتعطل بسبب امتناع كثير من المزارعين عن تنفيذه نتيجة غياب الثمار. وهذا التجنب يحمل مخاطر مستقبلية جسيمة، خاصة لأشجار اللوزيات، حيث يزيد من احتمال إصابتها بحشرة الحفار، وهو ما يزيد أعباء الفلاحين وقلقهم دون أن يكون لديهم حلول عملية. كما أشار مدير الزراعة "الحلبي" إلى أن الحل التقليدي في مواسم الجفاف كان يتمثل في ري المحاصيل مرة أو مرتين إضافيتين. لكن الوضع الحالي يتطلب، بحسب تقديراته، أربع ريات تقريباً، وهو ما يفوق قدرة الغالبية العظمى من المزارعين على التحمل نتيجة غلاء أسعار المياه وندرتها.
جهود موازية ومطالب عاجلة
ورغم ضعف الإمكانات، بذلت دائرة الزراعة في السويداء جهوداً، بالتعاون مع المجتمع الأهلي، لزراعة بعض الأشجار الحرجية في مناطق مثل وادي مظلم ومطار الكفر الزراعي. كما تم التعاون مع مؤسسة "كرامة" لزراعة خمسة آلاف شتلة على طريق دمشق-السويداء. وتسعى الدائرة جاهدة، حسب قول الحلبي، إلى القيام بواجباتها، معتمدين أحياناً على التعاون مع مديريات الزراعة في المحافظات الأخرى عند الحاجة. وقد تمكنت الدائرة هذا العام من استيراد أحد عشر ألف غرسة زيتون من محافظة اللاذقية، بديلا عن المشاتل الزراعية في السويداء التي تعرضت لاعتداءات. مضيفا أن الدائرة لا تزال تحاول تقديم الدعم للمزارعين عبر المصرف الزراعي، وذلك من خلال توفير البذور المحسنة المناسبة للمناطق التي يزرع فيها الشعير أو القمح، بالإضافة إلى توفير الأسمدة الكيميائية مثل الآزوت والأمونيوم واليوريا وسلفات البوتاسيوم.
تحذير أخير ونداء استغاثة
وشدد المهندس مالك الحلبي في حديثه لـ"العربي الجديد" على الحاجة الملحة والفورية لتفعيل الضابطة العدلية معتبرا أن تفعيل دور الضابطة العدلية سيساهم بشكل حاسم في وقف التعديات المستمرة على الأراضي الزراعية والحرجية. مطالبا بضرورة صياغة قوانين صارمة ورادعة وتطبيقها بحق كل من يتعدى على الأملاك العامة أو الأراضي الحراجية أو التربة النباتية بشكل عام، معتبراً ذلك شرطاً أساسياً لحماية ما تبقى من الرقعة الخضراء في السويداء وتمكينها من الصمود في وجه التحديات المناخية والاقتصادية المتفاقمة. مشيراً إلى أن استمرار التحديات يهدد بتحويل أرض كانت خصبة إلى شاهد صامت على أزمة إنسانية وبيئية تتفاقم يوماً بعد يوم.

Related News


