
كنّا شلة من أصدقاء الجامعة نتناول طعام العشاء، مساء يوم الخميس الماضي، حين دار نقاش عن احتمالات شنّ هجوم من إسرائيل على إيران يشمل بعض المفاعلات والمنشآت النووية في إيران. ولمّا انجلى الصبح تبيّن لنا أن يوم الجمعة 13 يونيو/ حزيران قد شهد هجمات عنيفة طاولت المنشآت وكبار المسؤولين والعسكريين في قلب المدن الإيرانية، وقد شعرت بخيبة أمل كبيرة من أنّ توقعاتي بعدم حصول عدوان كهذا لم تكن صائبة، بل خاطئة كل الخطأ في توجّهاتها وتقديراتها.
وكالعادة، حاول بعض المسؤولين الإيرانيين ترميم الموقف وإنقاذ ما يمكن إنقاذه من ماء الوجه والروح المعنوية، وقالوا إنهم سوف يلقّنون العدو الإسرائيلي درساً قاسياً في القريب العاجل، ولكنّ التوقعات المتشائمة قالت لنا إنّ إيران لن تفعل الكثير، وإن المرشد الإيراني علي خامئني أصرّ على أن حقّ إيران في تخصيب اليورانيوم سيستمر، ولن تتوقف إيران عن خدمة البحوث والأغراض السلمية الآن.
ولكن مع تقدم الساعات يوم الجمعة الماضي بدأ الموقف يتغيّر وميزان التوقعات صار أكثر قرباً من التفاؤل الحذر بدلاً من التشاؤم اليائس. وقال البعض إنّ رشقات الصواريخ من إيران على إسرائيل سوف تتوقف، بعد أن تسبب أضراراً محدودة في البنى الإسرائيلية، قاتلة وجارحة أعداداً محدودة منهم. لم يكن المراقب للأحداث يجرؤ على الأمل بأكثر من ذلك حتّى لا يصاب بهبوط معنوي قاسٍ إن جاءت الأمور على غير ما يشتهي.
وتلاحقت دفعات إطلاق الصواريخ على مناطق مختلفة في أرض فلسطين التاريخية، وتسارع مئات الآلاف نحو الملاجئ حذراً وخوفاً. في المقابل أرسلت إسرائيل طائراتها وصواريخها ومسيّراتها ضدّ مواقع إيرانية، وبدا واضحاً أن المعركة لم تكن في الميدان فحسب، بل بدا أن الكل يريد أن تخدمه النهايات حتّى يدّعي الفوز.
وفي خضم ذلك، لم يجتمع العرب لمناقشة الوضع واتخاذ القرار الموحد المطلوب، ولكن كثرت الاتصالات الهاتفية بين الرؤساء ونظرائهم في الوطن العربي وخارجه، وكذلك نشط وزراء الخارجية في هذا الأمر. وقد انجلى الموقف العربي عن مواقف متقاربة جداً، مذكّرين إيانا بما قاله علي محمود طه في قصيدته "الجندول": "قد قصدناه على غير اتّفاق"، وهذا الموقف هو إدانة للهجوم الإسرائيلي على إيران، والوقوف على الحياد في القتال، ودعم إيران لا يعني أن الخلافات العربية الإيرانية قد صفرت وصفيت.
لكنّ الموقف العجيب هو موقف الرئيس الأميركي دونالد ترامب ووزرائه، خاصة وزير الخارجية ماركو روبيو، الذي صرح في البداية أنه لا يعلم شيئاً عن الهجوم الإسرائيلي، وقال إنّ إسرائيل لم تبلّغ الولايات المتحدة بالأمر إلّا قبل وقوعه بساعة من الزمن، أما ترامب فقد كان متردداً في تأكيد علمه أو جهله بنية إسرائيل الهجوم على إيران، ثم عاد ليقول إنه كان على علم بالهجوم، ولكن الولايات المتحدة لم تشارك فيه.
ثم استخدم بعد ذلك نتائج الهجمات الإسرائيلية المبكّرة ليقول إنها سوف تساعده في الوصول إلى اتفاق نووي مع إيران، وقال إنّه لن يتدخّل في الحرب إلّا لدعم وجود إسرائيل، وهو كلام ردّده المستشار الألماني الجديد، فريدريش ميرز، الذي لم يمضِ على توليه المنصب سوى شهر وأسبوع عندما وقع الهجوم، والذي صرح بتأييده المطلق لإسرائيل. ولعل سرعة رد فعل المستشار الألماني قصد منها نفي صفة "العنصر الآري" عن نفسه وعن ألمانيا الحديثة، علماً أن الآريين هم عنصر أوروبي هندي إيراني استخدمه هتلر في كتاباته.
وبغض النظر عن دوافع ميرز في سرعة الانتصار لإسرائيل ضد إيران، فإنّ اليوم الثاني من الحرب غيّر من التوقعات والموازين وبيّن أن إسرائيل قد لا تهزم، لكنّها لن تحقق النصر الذي تريد. فماذا ستكون نتائج كل ذلك على سياسات المنطقة واصطفافاتها وتجمعاتها؟
لا بدّ من التأكيد بدايةً أن الحرب لم تحسم حتى الآن. وفي ظنّي أن التحدي الأساسي هو منع للحرب من التوسع والتصاعد حتى لا تتحول إلى حرب إقليمية شاملة أو شبه حرب عالمية. ولعل بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي يصدق ادّعاءات المنجم الفرنسي ميشيل دي نوسترادام، أو نوستراداموس الذي كتب في القرن السادس عشر تنبؤاته بأنّ إماماً يعتمر عباءة سوداء وطاقية سوداء سيخوض حرباً طاحنة عالمية للمسلمين ضدّ الأعداء، ما سيخلق دماراً شديداً، لكنّ الغلبة ستكون لأعداء الإمام علماً أن نوستراداموس كان يهوديّ الديانة، إلّا أن الكثير من المنجّمين يتخذون من رباعياته وأشعاره مصدر إلهام لهم حتى في الوطن العربي نفسه.
ولكن لنفترض الآن أن إيران قادرة على الصمود لمدة طويلة في حرب ضدّ إسرائيل، فإن المعركة سوف تنتهي بواحد من احتمالَين؛ الأول هو تدخل الدول العظمى من أجل إيقاف الحرب وإنهائها معطية الفرصة للطرفين بأن يجاهرا بالانتصار، والاحتمال الثاني هو أن تتوسع الحرب حتى تنفجر على نحوٍ مدمّر لا يستطيع أحد بعدها أن يتنبأ بما سيحصل. ولنقل إن العالم قد تبنّى موقفاً عقلانياً يرى فيه أن إيقاف الحرب وتهدئة المنطقة برمتها هو الأجدى، فإن الأمور سوف تختلف نتائجها كثيراً.
على إسرائيل أن تعرف أن هذه الفرصة العسكرية التي سمحت لها أن تزهو وتفتخر بنفسها وتعيث في الأرض فساداً قد لا تتكرّر، ولذلك يجب عليها أن تبدأ بالتفكير في البقاء والتعايش. أما إذا ظنت أن فرصتها ستمتد فهم مخطئون كما أخطأ معظم الغزاة الذين أتوا إلى المنطقة من يونان ورومان وفرس وبيزنطيين وصليبيين ومغول وتتار وأوروبيين وأميركان وروس. ولا يمكن لهذه المنطقة أن تسمح ببقاء الغزاة، بل ستذيبهم فيها، وقد سبق لليهود أن جرّبوا أن يكونوا فئة بارزة مستقلة، ولكن غالبيتهم أسلموا أو اعتنقوا المسيحيّة وذابوا في المجتمعات.
وعلى إسرائيل أن تدرك أنّ إدارة الرئيس دونالد ترامب مهما بالغت في دعمهم على حساب مصالحها، فإنّ الظروف القادمة ليست معها، فالظروف الموضوعية في الشرق الأوسط، تقول إنّ مصالح المنطقة لا تتحقق بانفراد أميركا بالمنطقة، بل لا بدّ للدول أن تأخذ في الحسبان أن مصالحها مرتبطة أيضاً بالقوى العظمى الجديدة، وهي الصين وروسيا.
وما تزال الهند تبحث لها عن ترتيب في المنطقة تحقّق فيها مصالحها الاستراتيجية، رغم اشتباكها مع باكستان وسعيها لتخفيف أثر الفشل المفاجئ في حربها الأخيرة ضدّ جارتها المسلمة.
يتمتع العالم العربي حالياً بفرص تفاوضية ممتازة مع العالم، وآن الأوان أن يرتّب العرب بيتهم من أجل تحقيق مصالحهم العليا، عن طريق فتح آفاق التعاون مع كل القوى العالمية والإقليمية، أما الوضع الحالي فهو وضع غير كفؤ، إذ إنّ معظم تفاوضنا يرتكز إلى إرضاء الولايات المتحدة، وإسرائيل عند البعض، ولكن الدول الأخرى مثل الصين وروسيا والهند وأوروبا وحتّى اليابان تريد من الوطن العربي أن يكون شريكاً لها، ولا يجوز تحت أي عنوان أن نضيع هذه الفرصة.
لقد مضى حتّى الآن أكثر من 75 يوماً على استلام الرئيس الأميركي مفاتيح البيت الأبيض والمكتب البيضاوي فيه، وقد وعد أن ينجز الكثير خلال الأشهر الأولى من إدارته، فهل حقّق حتى الآن أيّ نتائج؟ الحرب في غزة والضفة الغربية قائمة، وكذلك الحرب في أوكرانيا دون أي بريق في نهاية النفق.
والآن حرب جديدة تشنّها إسرائيل على إيران، وهناك الفشل الذريع في المفاوضات النووية مع إيران، وفشل أكبر في التعامل مع ملف الهجرة غير الشرعية. وقد بدت مظاهر التفسّخ الداخلي في شوارع لوس أنجليس وغيرها من المدن الأميركية في ولايات ومدن مهمّة مثل تكساس ونيويورك وشيكاغو وفيلادلفيا وغيرها. والاقتصاد لا يرى أيّ مظاهر تحسّن بسبب السياسات الجمركية والضريبية التي يسعى لتطبيقها. هذه المعلومات ليست من عندي، بل هي من كتابات وتعليقات الاقتصاديين والخبراء الماليين في الولايات المتحدة وخارجها.
والأنكى من ذلك، هو رجال الرئيس ترامب المعيّنين في وظائف حساسة، وقد سوَّقَ الإعلام لهم مثل مبعوث الرئيس ستيف ويتكوف الذي بدا رجلَ المهمات الصعبة، وإذا به لما زأر كالأسد صاح "مياو" ولم ينجز شيئاً. والمصيبة الأدهى تتمثل في الرجلين اللذين اختارهما ليكونا سفير أميركا في إسرائيل، ومبعوثَ أميركا الدائم في الأمم المتحدة.
وقِس على ذلك وزراءه وغيرهم، وعلاقته مع الأثرياء أمثال إيلون ماسك، أو مع شركات التكنولوجيا الحديثة أو مع الجامعات المهمة مثل هارفارد. فهل يبدو لنا أن ترامب هو الشريك الأمثل لنا في الوطن العربي في هذه الظروف؟ أعتقد أن مزاج الرجل متقلّب وأنه ليس بالشريك الأمثل، ولا أظن أنّ اللوبي الصهيوني المستفيد الأكبر من ترامب يضمر للرئيس خيراً. وهناك كثيرٌ من الكتاب الموالين للحركة الصهيونية ممّن يعتقدون أن أفكاره مغذية لمشاعر اللاسامية المعادية للأجانب واليهود خاصّة.
المعضلة أن الرئيس الأميركي قادر على أن يكون أكثر فاعلية وأكثر إنتاجية مما هو عليه الآن، وقد آن الأوان لكي يتخلّى عن أوهامه أنّه على حق والعالم على خطأ، وأن العالم يجبُ أن يأتي إليه. الولايات المتحدة التي كانت تفوز بكل ما تريد إبّان فترة القطبية الأحادية قد انتهت وتولّت، وإن أميركا لا تستطيع أن تأمر فتطاع. عليهم الآن أن يعترفوا أن للعالم مصالح استراتيجية، ولن تمنع قوةُ الولايات المتحدة مهما بلغت هذه القوى من السعي لتحقيق تلك المصالح.
هل نحن في العالم العربي ما نزال تحت وهم أن أميركا هي الآمر الناهي؟ أم أنها هي قوة عظمى مخيفة ولكنّها ليست الوحيدة المحتكرة لهذا المركز، بل لها شركاء أقوياء قادرون على التحديق في وجهها وتحديها متى ما اقتضت مصالحهم ذلك. وصدق الشاعر أبو البقاء الرندي:
لكلّ شيء إذا ما تمَّ نُقصان فلا يُغرَّ بطيب العيش إنسان
هي الأمور كما شاهدتُها دُولٌ مَن سرّه زمن ساءته أزمان

Related News

