مديح الموريسكي الأخير...غوارديولا متضامناً مع غزّة
Arab
8 hours ago
share

ليس مراد هذا المقال تقريظ مدرّب كرة القدم الإسباني الشهير، جوسيب غوارديولا، ولا مديحه لموهبته الفذّة، وللألقاب التي حازها بلا منازع تقريباً في العقود الماضية، ولكنّه الحرص على الاحتفاء بواحدٍ من أيقونات كرة القدم بعد موقفٍ مشرّفٍ بشأن غزّة. لم يكن الأمر سهلاً على لاعب موهوب، وعلى مدرّب فذّ، بنى مجده على موهبته الرياضية، وهي في الوقت نفسه مهنته التي منها جنى ثروةً ومجداً وجاهاً. كان يمكن للرجل أن يستحضر عواقب موقفه المحتملة، فقدّر أنه قد يخسر كثيراً من ماله وشعبيته، وقد تقاطعه كُبرى النوادي الرياضية. كان يمكن أن تلعنه الجماهير الرياضية، وهي التي أعلته إلى مرتبة عليا، ولكنّه نحّى ذلك جانباً، وقال كلمته الشهيرة أمام محفل من كبار الجامعيين ونبلاء المجتمع المخملي في بريطانيا. ألقى تصريحاته المشرّفة في مراسم تسلّمه الدكتوراه الفخرية، التي قرّرت جامعة مانشستر منحه إياها لجليل أعماله التي قدّمها إلى المدينة (شخصياً أو من خلال مواقفه)، وقد تحوّلت بفضله قِبلةً للسيّاح وعشّاق كرة القدم. كان يمكن للرجل أن ينال الدكتوراه الفخرية، ويعود مزهواً إلى بيته، ويضيفها لقباً إلى سيرته الذاتية، لتعزيز رصيده من وجاهة كروية ترشّحه لتدريب كُبرى الفِرق الرياضية، ويعلم أنه قد فعلها، مع صغر سنّه. ربّما حسب غوارديولا ألف حساب، ولكن قرّر في النهاية أن ينحاز إلى ضميره، وأن يضع المخاوف جانباً.

حين تهدر ساحات الجامعات وشوارع الغرب فلأن ما يجري في غزّة ليس "سياسة"، بل إبادةٌ للبشرية، وسيكون من النبل الانحياز إلى إنسانيتنا

عاش غوارديولا طفولته في قرية بضواحي برشلونة، المدينة الهادرة بصخبها وعنادها، والمحتفية دوماً باختلافها، وتزامنت طفولته والانتقال الديمقراطي في بلده، بكلّ ارتباكاتها وتردّدها، ولكنّه ظلّ في الحالات كلّها ابن هذه المهجة الإنسانية العالية التي عرفتها برشلونة. كان مولده سنة 1972. انتمى لاعباً موهوباً منذ صغر سنّه إلى برشلونة، بعد أن انتسب مبكّراً إلى أحد مراكز تكوينها، وشهد معها مجداً، ثمّ انتقل فيما بعد إلى فِرق عديدة منها الأهلي القطري. كان قد فاز لاعباً بالعديد من الألقاب العالمية والقارّية ومنها كأسَا العالم وأوروبا. غير أن مجده ونجمه سيسطعان بتألّق أكبر حين يمتهن تدريب كرة القدم لاحقاً، إذ يعدّ حالياً من أكثر المدرّبين تتويجاً. ينظر إليه بوصفه فيلسوفَ كرةٍ، ارتقى بكرة القدم إلى مرتبة الاستعراض الفكري.
في تبريره موقفه، الذي يعلم جيّداً أنه قد لا يؤثّر في مجريات الأحداث ولن يوقف الحرب على غزّة ولا قتل أطفالها، استند إلى مهارات اتصالية ونفسية نادرة (وهو يدافع عن حقوق الأطفال الفلسطينيين)، حتى يبني مشروعيةً لا تتزعزع. حكى بكلّ هدوء وبلاغة حكاية العصفور الصغير، وهي حكاية كونية تقريباً، ذلك الطائر الضعيف الذي يحاول جاهداً إطفاء حريق هائل التهم الغابة، حتى كاد يبيدها. فسعى جاهداً بين النهر والغابة، يحمل في منقاره الصغير حبّات ماء قليلة على أمل إطفاء السعير المشتعل. تناديه أفعى كانت تراقبه، بين الشماتة واللامبالاة، لتدعوه إلى التوقّف عن هذا العبث الذي يأتيه. لم يتردّد العصفور الصغير، وكانت إجابته واضحةً: "إنه اختار موقفه". لقد أُلهم العصفور الصغير موقفه النبيل هذا. إنه عصفور الحرية والخير، الذي يرفض سلوك الأفعى. إنّها ثنائية أنثروبولوجية ذات وظيفة بيداغوجية (تربوية) راقية.
هناك عشرات اللاعبين العرب تجنّبوا الخوض في الحرب على غزّة، ورفضوا حتى مجرّد تصريحات لوسائل الإعلام يعربون فيها عن تضامنهم مع الأطفال. طبعاً، تظلّ بعض الاستثناءات النادرة على غرار أنس جابر، لاعبة التنس التونسية الشهيرة، حين كانت مصنّفةً بين العشرة الأوائل. ثمّة من يعرض عن الحديث عن غزّة بدعوى رفض حشر نفسه في السياسة لأنه لا يفهم طلاسمها وتعقيداتها، وكأنّ السياسة موطن الشرور والكذب. والحال أن الانحياز إلى غزّة ليس مسألةً سياسيةً، بل هي إنسانية في المقام الأول. فحين تهدر ساحات الجامعات وشوارع الغرب فلأن ما يجري في غزّة ليس "سياسة"، بل إبادةٌ للبشرية، وسيكون من النبل الانحياز إلى إنسانيتنا.

قرّر غوارديولا بدعمه غزّة، في النهاية، أن ينحاز إلى ضميره ويضع المخاوف جانباً

ثمّة حاضنة ما قد حفّزت غواراديولا إلى أن يتعاطف مع غزّة، ويختار إنسانيته. لقد وقفت إسبانيا (حكومة وشعباً) إلى جانب الفلسطينيين في محنتهم، وانتماؤه الاجتماعي في صباه إلى فئة اجتماعية شعبية، دلّه على الخير بالمعنى الفلسفي العميق، فضلاً عن أنه لعب في أوروبا وأميركا اللاتينية والخليج العربي. هذه الكونية، والترحال في التعدّد والاختلاف، كلّها عوامل هيأته لهذا النبل كلّه. كانت هذه الخصال من بين ما برّرت به الجامعة منحه الدكتوراه الفخرية: "لقد ألهم العديد من قصص النجاح في مجال الأعمال وغيرها، فضلاً عن الحسّ الرفيع بالمسؤولية الاجتماعية والقدرة على رفع التحدّي".
اشتُهر غوارديولا في أوساط الكرة والإعلام بأنه فيلسوف كروي، ابتكر أسلوباً، أو بلغة فلسفة العلوم: "باراديغما"، وعُرِف "بتيك تاك"، تلك التمريرات الثنائية القصيرة بين اللاعبين. أسلوبه قائم على التحكّم في الذهن قبل التحكّم في الكرة، وفي معرفة حسن التحرّك في المساحات الضيّقة، والإفلات من رقابة الخصم في تناغم مع الشريك. ها هو يفعل ذلك هذه المرّة أمام جمهور غفير من عشّاق الكرة، والملايين الذين يشكّلون رأياً عامّاً واسعاً ودولياً. إنه يفلت من رقابة المال والجاه لينجو بضميره الإنساني الحرّ والنبيل، ويحقّق هدفاً نبيلاً لا يقدّر. إنه ذاك العصفور الذي اختار موقفه.

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows