المراكز الثقافية السورية في الخارج.. ذاكرة منفية وآمال بالاستعادة
Arab
10 hours ago
share

مضت قرابة عشر سنوات على قرار وزير الثقافة الأسبق في حكومة النظام السوري السابق عصام خليل إغلاق المراكز الثقافية في الخارج. القرار الذي أوصد أبواب البعثات الثقافية السورية في باريس ومدريد وساو باولو ترك أثراً جسيماً على التواصل مع عشرات المستشرقين والباحثين والمستعربين في الغرب والقارة اللاتينية، وقطع الطريق على التعريف بالثقافة والفن السوريين. وينتظر اليوم العديد من المثقفين والفنانين بعد سقوط نظام الأسد، منذ أكثر من ستة أشهر، تحرّك وزارة الثقافة الحالية لإعادة افتتاح تلك المراكز، واسترداد دورها في التعريف بثقافة البلاد وإرثها الحضاري.

ولعل من غير المعروف أن هذه المراكز أُسّست على أيدي نخبة من المثقّفين السوريين، فالمركز الثقافي السوري في مدريد كان قد أسّسه الشاعر والمترجم رفعت عطفة عام 2005، وظلَّ في إدارته حتى عام 2008. تلك السنوات كانت كفيلة بأن يغدو المركز علامة فارقة في الوسط الثقافي الإسباني، وقد نال على ذلك جائزة أنشط مركز ثقافي في مدريد بسبب العديد من الأنشطة التي أدارها المترجم السوري الراحل، وكان أبرزها تأسيس الملتقى الثقافي السوري في مدينة المُنكَب؛ المدينة الأولى التي وصل إليها عبد الرحمن الداخل. كما أسّس عطفة الحدائق النحتية السورية التي شارك في أعمالها أكثر من ستين فناناً ونحاتاً سورياً، فضلاً عن الأنشطة الدورية للمركز التي أقامها للتعريف بالموسيقى السورية، والمطبخ السوري، والحرف والمهن التقليدية للبلاد.

وشكّل المركز الثقافي السوري في مدريد ظاهرة لافتة في التواصل مع عدد من المستعربين الإسبان، وكان على رأسهم مارتينيث مونتابيث الذي كرّمه المركز عام 2007، فيما حقّق المركز السوري في إسبانيا زيارة للروائي الإسباني أنطونيو غالا إلى دمشق في صيف 2008، وساهم في تكريس أسابيع ثقافية عن الآثار والكنائس والمساجد السورية، وانتقال فن العمارة والموشح من دمشق إلى الأندلس في شبه الجزيرة الإيبيرية.  

تأسّست في الخارج على أيدي نخبة من المثقّفين السوريين

وقد أكمل النحات أكثم عبد الحميد ما كان قد بدأه رفعت عطفة في استقطاب العديد من النحاتين والرسامين السوريين إلى العمل في الحدائق النحتية في ألمونيكار، لكن مع قرار وزير ثقافة النظام عام 2015، طُلب أن تغادر البعثة الثقافية السورية مقر المركز على عجل بحجة ضغط النفقات، ولم تتمكن البعثة وقتها حتى من تأمين مقتنيات المركز ومكتبته إلا بصعوبة، وبعد التواصل مع السفارة السورية في مدريد. 

المصير نفسه واجهه المركز الثقافي السوري في باريس، الذي تأسس عام 1979، وكان واحة من واحات الثقافة السورية في قلب العاصمة الفرنسية، ففي رحاب بنائه المشتق من عمارة البيت الدمشقي، أقيمت الندوات والمعارض الفنية والملتقيات الشعرية، كما زخرت قاعاته بحفلات موسيقية وعروض سينمائية وعروض لمسرح الحكواتي، ولا أحد يعرف حتى الآن مصير مكتبة هذا المكان التي تضم بين جنباتها أكثر من ثمانية آلاف كتاب، جلّها عن الحضارة والأدب العربيين، إضافة لمخطوطات إسلامية نادرة، ولوحات وأعمال حروفية تروي قصة وتطوّر فن الخط العربي عبر العصور.

ومنذ حوالي عشر سنوات، كان المركز الثقافي السوري في مدينة ساو باولو من الأماكن النادرة التي تقدّم دورات لتعليم اللغة العربية، وقد ساهم هذا المركز في إقامة العديد من الندوات ومعارض التصوير الفوتوغرافي للتعريف بالمعالم والأوابد والقلاع والكنائس السورية القديمة، لكنه اليوم مغلق، حاله كحال المراكز الثقافية الأجنبية في دمشق، التي كانت قد أوصدت أبوابها تباعاً في وجه زوّارها منذ اندلاع أحداث الثورة السورية في مارس/ آذار من عام 2011.

ماذا بعد رفع العقوبات؟   

مع إغلاق المراكز الثقافية الأجنبية في دمشق، فقدت الحركة الثقافية السورية مصادر تمويل أساسية للعديد من العروض المسرحية والأفلام والمعارض التشكيلية والحفلات الموسيقية. فعلى سبيل المثال، قبل اندلاع الثورة السورية، كان المركز الثقافي الفرنسي في دمشق يساعد في دعم العديد من تجارب المسرحيين السوريين، لعل أبرزهم جلال شموط وأسامة حلال ونورا مراد ومي سعيفان، فيما تمكّن كلٌّ من عمر أميرالاي وأسامة محمد من تكريس النادي السينمائي في المركز الفرنسي أحدَ أبرز الأنشطة الثقافية الأسبوعية في البلاد ما بين عامي 2000 و2010.

في الوقت نفسه، يمكن أن نتذكر أسماء العديد من الفنانين التشكيليين السوريين الذين انطلقوا بتجاربهم من قاعات معارض المركز الثقافي الفرنسي، ولعل أبرزهم الفنان سبهان آدم الذي شهدت القاعة الرئيسية في المركز إطلاق أولى معارضه عام 1996، وكان لهذه التجربة أثرٌ كبيرٌ على حركة التشويه في المختبر التشكيلي للبلاد. 

انطلق العديد من المثقفين بتجاربهم من المراكز الثقافية الأجنبية

رغم تمكن المعهد الفرنسي في دمشق من مواصلة مسيرته الممتدة منذ عام 1922، إلا أنه اضطر لاحقاً إلى إغلاق أبوابه في حي أبو رمانة بالتزامن مع الحراك الشعبي ضد النظام السابق. وقد لعب كلٌّ من أدونيس وجورج طرابيشي وحسان عباس دوراً بارزاً في ترسيخ مكانة هذا المعهد محطة ثقافية أساسية، من خلال مساهمتهم في إطلاق عدد من المؤتمرات واللقاءات المهمة، كان أبرزها مؤتمر "العلمانية في المشرق العربي" عام 2007، الذي قوبل وقتها برفض شديد من السلطات الدينية، ما أدى إلى إلغائه وتحويله لاحقاً إلى طاولة مستديرة استضافها المعهد الدنماركي في دمشق القديمة.

وما زال زوار كل من المركز الثقافي الألماني "غوته" والمركز الثقافي الإسباني "ثربانتس" يتذكرون تلك الأمسيات التي كان المركزان يقيمانها من عروض سينمائية وندوات وعروض مسرحية، إذ كان مقهى المركز الثقافي الإسباني ومقهى المركز الثقافي الألماني في دمشق مكانين مميزين للقاء النخب السورية، إلا أنه ومع اشتداد وتيرة العنف في البلاد، أغلق المركزان أبوابهما في العاصمة السورية. الأمر نفسه ينطبق على المجلس الثقافي البريطاني في حي الشعلان، الذي كان من آخر البعثات الثقافية الأجنبية التي غادرت البلاد، ويتذكر رواد ذلك المكان الدور الذي كان يلعبه هذا المجلس في تمويل العديد من الفعاليات الثقافية والفنية، فضلاً عن تعليم اللغة الإنكليزية. مثله مثل جميع المراكز الثقافية الأجنبية التي اختصت بهذا النوع من التفاعل الثقافي.

وبعد رفع العقوبات مؤخراً عن سورية، يتطلع عشرات المثقفين والفنانين إلى أن تتحرك وزارة الثقافة لإعادة افتتاح المراكز الأجنبية، وإتاحة الفرصة من جديد لحوار حضاري متبادل مع أوروبا والغرب، وإنهاء سنوات العزلة والقطيعة الثقافية عن سورية، ما يتيح الفرصة لتطوير حراك ثقافي منفتح على الآخر، وينهل من منابع فنية وثقافية متعددة.

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows