
صورة أم كلثوم ليست بحاجة إلى تعريف؛ فهي حاضرة في الذاكرة الجمعية بنيةً شكلية مشبعة بالمعنى، ورمزاً حيّاً تجاوز ملامح الوجه، ليُصبح جزءاً من الذاكرة البصرية لشعوب المنطقة العربية. يكفي أن تُعرض في أبسط حالاتها، حتى كظل "سيلويت"، كي يجري التعرّف عليها، إذ تتكرّر وتُستعاد في مختلف أشكال التعبير الفني المعاصر. ما يلفت في صورة أم كلثوم ليس شكلها المميز فحسب، بل الهالة التي تبعثها هذه الصورة؛ هالةٌ ثقافية ووجدانية جعلت منها موضوعاً ملهماً لعشرات الفنانين، ممن تعاملوا مع وجهها وتكوينها بوصفه مفردة بصرية قائمة بذاتها، تستدعي الحنين، وتوحي بالقوة، وتمثل الزمن.
وجه دائري تحيط به خصلات مشدودة إلى الخلف، تأخذ شكل هلال يحتضن الملامح. أقراط طويلة تتدلّى حتى أطراف الكتفين، وثوب كلاسيكي ينثال باتّساع ملكيّ حتى يكاد يلامس الأرض. أما المنديل، فهو أكثر من مجرد إكسسوار؛ إنه امتداد تعبيري لحركتها الموسيقية، عنصر بصري متحرك، يتماوج مع جسدها كما تتماوج هي مع الألحان. بهذا التكوين، تتجلّى أم كلثوم صورةً لا تمثل فرداً فحسب، بل تُجسد تياراً ثقافياً، وحالة وجدانية، وأيقونة بصرية تجاوزت زمنها.
لا يتذكر الفنان المصري جورج بهجوري على وجه الدقة متى بدأ ولعه برسم وجه أم كلثوم، لكنّه يعلم جيداً أنه مهووس بها منذ أن كان يعمل رساماً للكاريكاتير في مجلة صباح الخير المصرية. وكان سفره واستقراره في باريس تزامناً مع العام نفسه الذي رحلت فيه. لم يكن جورج بهجوري الفنان الوحيد الذي رسم أم كلثوم، لكنّه ربما كان من أكثر من رسموها أو تعلقوا بصورتها إلى حدّ الهوس؛ خصص لها البهجوري معرضاً سابقاً، ضمّ مجموعة كبيرة من الاسكتشات واللوحات الزيتية التي استلهمها من أغنياتها، وله كتاب بعنوان أيقونة أم كلثوم، يضم نحو 150 لوحة رسمها لسيدة الغناء العربي على مدار مشواره الفني. تظهر أم كلثوم في لوحات بهجوري في كامل عنفوانها؛ يرسمها أحياناً وحيدة داخل المشهد، وأحياناً أخرى بصحبة فرقتها الموسيقية. هي أيقونته المحببة، والأقدر، كما يقول، على بثّ الطمأنينة والدفء في نفسه حين يكون مضطرباً.
صورة من أغنى الحالات البصرية في التشكيل العربي المعاصر
يرى الفنان والناقد السوري أسعد عرابي، وهو واحد من الفنانين الذين تناولوا صورة أم كلثوم في أعمالهم، أن سيدة الغناء العربي تُعد ابنة شرعية للتيار الصوفي، الذي يُمثل أحد أهم روافد الثقافة العربية. فقد تربّت أم كلثوم تربية دينية على نهج فرق الإنشاد الصوفي، إذ كان والدها شيخاً ومنشداً، ومن ثم عُرفت في بداياتها بالأغاني الصوفية، ومثلت بصوتها جزءاً من هذا التيار الشرقي الأصيل.
هذا البُعد الروحي هو ما لفت أنظار العالم إليها، باعتبارها رمزاً لثقافة مغايرة. فقد جذبت، على سبيل المثال، انتباه الراقص الفرنسي الشهير موريس بيجار، الذي تأثر بأغنياتها في بعض عروضه وتصميماته الراقصة، وكذلك الموسيقي الهنغاري بيلا بارتوك، الذي التقاها سنة 1946، وكان لأغانيها أثر بالغ في اهتمامه وقناعاته فيما بعد. هذه المرجعية الصوفية التي يشير إليها أسعد عرابي شكّلت الإطار الذي انطلقت منه تجربته الفنية، التي عرض جانباً منها في القاهرة عام 2011.
من وجهة نظره، فإن أم كلثوم جزء من تيار ثقافي ينزع إلى التصوّف، وهو ما منح صوتها ذلك الوهج والعمق الظاهرَين. وقد رسم عرابي صورتها وسط فرقتها الموسيقية، إذ لم يُرِد أن يقتطع هيئتها من السياق الذي تشكله فرقة العازفين من خلفها، لأنهم يشكلون معها الحالة السحرية التي ميّزت صوتها.
تمثل صورة أم كلثوم واحدة من أغنى الحالات البصرية في التشكيل العربي المعاصر، ولعل النظرة الصوفية التي تبناها بعض الفنانين لرؤية سيدة الغناء العربي ليست منفصلة عن مقاربات أخرى رأت في حضورها حالة استثنائية تتجاوز المعايير الجندرية والثقافية السائدة، فبينما اعتبرها البعض امتداداً روحياً لتيار التصوف، باعتبارها ابنة بيئة دينية، رأى آخرون فيها رمزاً أنثوياً نادراً اخترق المجتمع الذكوري وفرض حضوره عليه. هذه النظرة الأخيرة تُبرز أم كلثوم لا بوصفها مجرد صوت أو حالة فنية، بل بصفتها أيقونة ثقافية استطاعت أن تقتنص لنفسها حضوراً ثابتاً في المخيلة الجمعية العربية.
لقد تعامل هؤلاء مع صورتها بوصفها رمزاً مركباً يدمج بين الأنوثة والقوة، والحضور والغياب، والفن والهوية. ومن أبرز هذه المعالجات ما قدّمه النحات المصري آدم حنين في أحد أبرز أعماله النحتية. ما يلفت النظر في هذا العمل ليس الواقعية أو التفاصيل، بل الانسيابية النحتية التي تمنح الكتلة نوعاً من السكون الخاشع. في هذا التمثال، بدا الجسد كأنّه منحوتة واحدة، بلا نتوءات أو تفاصيل حادة. تتداخل فيه الأطراف بالمنديل وتذوب في الجذع، حتى تختفي ملامح الوجه تقريباً، ورغم ذلك، أو بسببه، يمكن للمتلقي أن يتعرف على أم كلثوم على الفور. هذه المفارقة البصرية، بين غياب التفاصيل وحضور الهوية، تُعيد تأكيد قوة صورة أم كلثوم بوصفها رمزاً بصرياً قادراً على تجاوز المادة والتجسّد والانصهار في وجدان أجيال متعدّدة.
في المشهد التشكيلي العربي، لا تأتي صورة أم كلثوم عنصراً جمالياً عابراً، بل بصفتها كياناً بصرياً محمّلاً بالذاكرة والحنين، قادراً على إثارة استجابات وجدانية عميقة. إنّها صورة تتجاوز إطارها الواقعي لتصبح قناة استدعاء لما كان، ونافذة نطلّ منها على الماضي الجماعي والثقافي. الفنان المصري عادل السيوي وعى هذا البُعد جيداً حين استعاد صورة أم كلثوم ضمن مشروعه التصويري نجوم عمري (2006)، الذي لم يكن مجرد محاولة أرشيفية لتوثيق رموز مؤثرة، بل كان بمثابة رحلة وجدانية وفكرية إلى عمق الذاكرة. فقد اختار وجوهاً شكّلت الوعي الجمعي، وكانت أم كلثوم واحدة من أبرزها، باعتبارها صوتاً وصورةً ارتبطا بالحلم الجمعي لعصر عربي حافل بالتحوّلات.
قبله، كان الفنان شانت أفديسيان قد انغمس في ذات الحالة، مستلهماً من صورة أم كلثوم ملامح فوتوغرافية مشبعة بالزمن. عبر استخدام الألوان الباهتة، والخامات التي تحاكي تقادم الصور، قدّم أفديسيان رؤية فنية تستحضر النسخة الشعورية من الذاكرة أكثر مما تعيد إنتاجها بصرياً. تبدو أم كلثوم هنا كأنها إشارة دائمة إلى زمن عربي له نكهته، وله وقعه الخاص، تستدعيه الأجيال إما بنوستالجيا مشبعة بالدفء، أو نوعاً من التمسك برمزية ثقافية تكاد تتلاشى في زمن التحوّلات السريعة.
ومن بين أبرز الفنانين الذين تناولوا صورة أم كلثوم أيضاً، تأتي الفنانة الأردنية هيلدا حياري، التي عالجت صورتها في أكثر من عمل. تتجلى صورة أم كلثوم في أعمال حياري مساحةً مفتوحةً للتجريب البصري، إذ يتقاطع الواقعي بالرمزي، وتتحول الملامح إلى حقل تعبيري يستقبل الزخارف والخطوط، كأنها وشوشات من زمن بعيد. لم تكتفِ حياري بإعادة إنتاج وجه أم كلثوم صورةً مألوفةً، بل حولته إلى سطح بصري ديناميكي، قابل للكتابة والتلوين والتأويل.
عبر مزجها بين الرسم والتلوين والتكوينات الزخرفية، قدّمت حياري قراءة بصرية جديدة لأيقونة الغناء العربي، تجعل من الوجه ذاته مساحة للتداخل بين الذاكرة الشخصية والجماعية، فالمعالجة ليست مجرد تصوير أو تزيين، بل إنّها فعل تشكيلي واعٍ يعيد طرح صورة أم كلثوم في سياق معاصر، إذ تصبح الملامح حروفاً، وتتحول إلى لغةٍ بصرية قائمة بذاتها. ما يميز هذا الطرح أن حياري لا تُقدّم صورة أم كلثوم كما هي، بل كما ترتسم في الوجدان الثقافي، محمّلة بالمعاني، ومفتوحة على احتمالات التفسير. إن تعاملها مع الوجه بوصفه سطحاً زخرفياً وروحياً في آن، يعكس فهماً عميقاً لما تمثله أم كلثوم من أكثر من مجرد حضور صوتي أو فني، بل من رمزية مرئية ما زالت فاعلة في الخيال العربي حتى اليوم.
وفي الوقت الذي انشغل فيه معظم الفنانين العرب بإعادة إنتاج صورة أم كلثوم أيقونةً مركزيةً، سواء عبر الرسم أو النحت أو التصوير، قلّما التفت أحدهم إلى العنصر الآخر في معادلة حضورها، وهو الجمهور. هذا الجمهور الذي لم يكن مجرد متلقٍ، بل كان جزءاً حياً من الحالة الكلثومية، يشكّل معها ثنائية وجدانية لا يمكن فصلها عن التجربة الغنائية والفنية برمتها.
الفنان المصري مصطفى رحمة اختار أن يوجّه بصره إلى هذا الجانب المُهمَل من الحكاية، فصوّر "السّميعة"؛ وهم العاشقون الذين كانوا يتتبعون أم كلثوم من حفلة إلى أخرى، يعيشون معها كل آهة وكل ارتجال. لم يرَ فيهم جمهوراً عادياً، بل رآهم طيفاً ثقافياً يُمثل مزاجاً عربياً خاصاً، له نغمه ونَفَسه الطويل في الإصغاء، والتذوق، والانفعال.
ما يلفت في أعمال رحمة، خصوصاً تلك التي تتناول النساء من جمهور أم كلثوم، هو قدرته على نقل طقس الاستماع من قاعات الحفلات إلى أجواء البيت العربي. رسم نساءً جالسات في شرفاتهنّ، يحتسين الشاي أو القهوة المطحونة يدوياً، ينصتن بكامل الحضور والانغماس. هذه التفاصيل الصغيرة، كمطحنة القهوة، وضوء الشرفة، وملامح التأمل، تحوّلت في يد الفنان إلى رموز لثقافة عاطفية وصوتية طالما شكّلت هوية زمنٍ كامل. يمكن القول إنّ صورة أم كلثوم لا تكتمل إلّا بهذه اللحظة الإنسانية اليومية التي رصدها مصطفى رحمة. لقد خرجت من كونها رمزاً مجرداً، وتسلّلت إلى وجدان الناس، ليس بوصفها صوتاً شجياً فحسب، بل بصفتها حضوراً بصرياً واجتماعياً، ينعكس في ملامح مَن عشقوها وتماهوا معها.
* كاتب من مصر

Related News

