
أثرت الضربات المتبادلة بين إسرائيل وإيران على الاقتصاد المصري سريعاً، إذ تعطلت مصانع الأسمدة والبتروكيماويات، بعدما أوقفت الشركة القابضة للغاز الإمدادات، عقب انحباس الغاز الإسرائيلي إثر وقف الإنتاج من حقلَي "ليفياثان" و"تمار" الإسرائيليَين في أعقاب اندلاع العدوان على إيران.
وتراجع الجنيه المصري أمام الدولار، بمعدل 50 قرشاً رسمياً، وجنيه واحد في السوق الموازية، وارتفعت خدمة فوائد الديون السيادية، وخيّمت مخاوف من تعطل حركة السفن وشحن الواردات، ما ينذر بزيادة أسعار السلع ومستلزمات الإنتاج. وفوجئ الشارع المصري بانقطاع الغاز الإسرائيلي عن الشبكة الوطنية للغاز، يوم الجمعة الماضي، بما أحدث ارتباكاً لدى وزارة البترول التي لجأت إلى تخفيض أحمال الغاز المتّجه إلى مصانع الأسمدة، وتعطيلها عن العمل لمدة 72 ساعة على الأقل، مع مطالبة المصانع المستهلكة للمحروقات والطاقة بتخفيف معدلات التشغيل، وتوجيه شركات إنتاج الكهرباء للعمل بالماوزت.
وعبّر أعضاء في غرفة التجارة عن خشيتهم من امتداد أمد الصراع بين إسرائيل وايران، ودخول المنطقة في حالة من الفوضى، تؤثر على مرور سفن الشحن في مضيقَي هرمز وباب المندب، بما ينعكس سلباً على حركة التجارة الدولية المارة في البحر الأحمر وقناة السويس، التي فقدت بالأساس 60% من إيراداتها خلال العدوان الإسرائيلي على غزة خلال عام 2024،
وأشارت شعبة اللوجستيات في الغرفة التجارية إلى الإنذار الذي وجّهته اليونان وبريطانيا، نهاية الأسبوع، لسفن الشحن التجارية، التابعة للدولتَين بتجنّب الإبحار عبر خليج عدن وباب المندب، وتتبع جميع الرحلات المارة في مضيق هرمز عن كثب، واتخاذ الحيطة وأعلى درجات الأمن وتخفيض أفراد الطاقم على سطح السفن أثناء العبور في تلك المناطق، خشية تعرضها لضربات مفاجئة.
ويتوقع اقتصاديون أن تدفع زيادة أسعار النفط والغاز والواردات، معدلات التضخم إلى المستويات القياسية التي بلغتها عام 2023، والتي فاقت 34% على أساس سنوي، بعد تراجعها إلى متوسطات مستهدفة عند 20% في نهاية العام الجاري 2025.
أعرب خبير التمويل والاستثمار، وائل النحاس، عن مخاوفه من تزايد ضغوط تأثيرات حالة الاضطراب الجيو سياسي وأجواء الحرب الواسعة في المنطقة، على الجنيه المصري الذي فقد نحو 50 قرشاً في نهاية تعاملات الأسبوع، مع أولى ساعات الحرب بين إسرائيل وإيران، وتراجعه في العقود الآجلة بنحو 127 قرشاً للجنيه، ليصل إلى 60.29 جنيهاً مقابل 58.62 جنيهاً صباح الخميس الماضي، لافتاً إلى إمكانية تزايد هذه الهوة، في حالة خروج الأموال الساخنة من سوق السندات وأدوات الدين المحلية، التي يعول البنك المركزي عليها في زيادة الغطاء النقدي من الدولار.
وارتفعت تكلفة التأمين على الديون السيادية المصرية لأجل خمس سنوات، بنسبة 0.71%، منذ اندلاع العدوان الإسرائيلي على إيران، لتسجل 5.71%، في ظاهرة مثيرة للقلق في ظل تراجع معدلات الفائدة على السندات بالدولار في الأسواق الدولية إلى مستويات أقل من 4.25%.
وأشار النحاس إلى قفزات فورية في أسعار النفط لتصل إلى 74 دولاراً للبرميل، مشيراً إلى أنه في حال استمرار زيادة أسعار النفط فسيؤدي ذلك إلى ارتفاع كبير في أسعار مستلزمات الإنتاج والتشغيل، خاصة في الصناعات كثيفة الاستهلاك للطاقة التي تمثل المحروقات بها نحو 40% من قيمة تكلفة التشغيل، بما يرفع من مخاطر الاستثمار ويضغط على الجنيه والأسهم المتداولة في البورصة.
وكشفت مصادر مسؤولة في وزارة البترول لـ"العربي الجديد" عن تلاقي ثلاث مشاكل دفعة واحدة، لتشكل أكثر أزمة للقطاع، وهي توقف إمدادات الغاز من حقلَي "ليفياثان" و"تمار" الإسرائيليَين عن الشبكة الوطنية للغاز، التي تقدر ما بين 800 مليون إلى 850 مليون قدم مكعبة يومياً، بينما كان من المقرّر أن تصل إلى 1.2 مليار قدم مكعبة يومياً، اعتباراً من أول يونيو/حزيران الجاري، لمساعدة مصر على مواجهة تراجع معدلات ضخ الغاز خلال موسم ذروة الاستهلاك الصيفي الممتد من الشهر الجاري إلى أول سبتمبر/أيلول المقبل، في محطات توليد الكهرباء والمصانع والقطاعات التجارية والخدمة من الغاز والكهرباء.
وأشارت المصادر إلى أن المشكلة الثانية تتمثل في أن الوزارة فوجئت بخفض شركات إنتاج الغاز من الحقول المحلية المتراجع إلى مستويات متدنية قياسية بالأساس، إذ لا تزيد عن 3.7 مليارات قدم مكعبة يومياً، وذلك بسبب عدم سداد وزارة البترول ستة مليارات دولار مستحقات متأخرة لصالح المستثمرين الأجانب، الذين يرغبون في تصدير حصتهم من الإنتاج إلى الأسواق الدولية، بحثاً عن موارد فورية بالدولار، تساعدهم على تعويض الاستثمارات المدفوعة في حقول الغاز والصرف على مشروعات تنمية الحقول التي تضغط وزارة البترول لإتمامها، بهدف العودة بالإنتاج إلى مستويات تزيد عن ستة مليارات قدم مكعبة يومياً بحلول عام 2027.
والمشكلة الثالثة، وفقاً للمصادر في وزارة البترول، تتمثل في اتفاق وزارة البترول على تأمين العجز الكبير في مصادر الغاز عبر شراء حوالى 160 شحنة من الغاز المُسال من السوق الفورية الدولية، تكفي حتى نهاية العام، دون تهيئة الأوضاع اللوجستية في الموانئ المصرية لاستقبال تلك الشحنات التي أصبحت تمثل نحو 50% من احتياجات البلاد اليومية من الغاز الطبيعي، إذ وصلت ثلاث سفن "تغويز" (تحويل الغاز من صورته السائلة إلى طبيعي) بكلٍّ من محطة "تحيا مصر" في ميناء الإسكندرية على البحر المتوسط شمال البلاد، و"العين السخنة" في جنوب ميناء السويس (شرق)، دون أن تجهز بأنظمة الربط مع الشبكة القومية للغاز، والتي تحتاج إلى أيام عدّة لإتمام عملية الربط، بما يضم ضخ الغاز المستورد للشبكة الوطنية الموحدة، بدون مشاكل فنية، تظهر ضعف معدلات التوريد لمصانع الأسمدة.
وأشارت المصادر إلى أنه رغم ارتفاع قيمة المخصّصات المالية الموجهة لاستيراد الغاز المُسال من ثلاثة مليارات دولار إلى ثمانية مليارات دولار خلال العام الجاري، والاتفاق المسبق على تلبية احتياجات البلاد كافة من الغاز، بما لا يعرض المستهلكين إلى انقطاع التيار الكهربائي أو تخفيض معدلات ضخ الغاز للمصانع، فإن المشاكل اللوجيستية، تتعلق بسرعة ربط محطات التغويز بالشبكة الوطنية للغاز، خاصة مع انتظار وصول ثلاث سفن تغويز أخرى من تركيا وأوروبا للعمل، ابتداء من يوليو/تموز المقبل إلى بداية عام 2026.
في المقابل قال خبير هندسة البترول والطاقة، جمال القليوبي، إن وزارة البترول اتخذت إجراءات احترازية لمواجهة النقص في واردات الغاز من إسرائيل، منذ أسبوعَين، حينما أبلغت الشركات الإسرائيلية وزارة البترول، بأنها ترغب في خفض كميات الغاز، لعمل صيانة لخطوط الربط بين شبكة الغاز الوطنية والحقول الإسرائيلية، وهو الأمر الذي عجّل بطلب شحنات كبيرة من الغاز المُسال، وتوفير أربع سفن للتغويز، مؤكداً أن الغاز المُسال المستورد سيجري تحويله للشبكة الموحدة من محطة ميناء الإسكندرية والسويس بعيداً عن مناطق الاضطراب العسكري.
وأشار القليوبي، في اتصال مع "العربي الجديد"، إلى احتفاظ وزارة البترول باحتياطيِّ كميات كبيرة من المحروقات التي تشمل الغاز والبنزين والسولار والمازوت، تكفي احتياجات البلاد لمدة 45 يوماً، بما يمنح مصر القدرة على تحمل الاضطرابات التي قد تشهدها المنطقة وأسواق الطاقة، بسبب الحرب الإسرائيلية، مشدداً على قدرة الحكومة على مواجهة اضطراب حركة الشحن الدولي للغاز، في حال استمرار الحرب، لتنوّع مناطق وصول الشحنات بين الموانئ في غرب وشرق وجنوب البلاد، بما يضمن تدفق المحروقات وتشغيل محطات التوليد كافّة.
وفي السياق، قال خبير اقتصاديات البترول ومستشار مجلس الوزراء محمد فؤاد، إن توقف تشغيل الآبار الإسرائيلية، إجراء احترازي قد يستمر ما بين يومين إلى ثلاثة أيام أسوة بغلق المطارات والأجواء في الأراضي المحتلة، مبيناً أن تراجع كميات الغاز التي تحتاجها الشبكة بنحو 850 مليون قدم مكعبة يومياً، يضطر وزارة البترول إلى العودة لسيناريوهات تخفيف الأحمال بشبكات الغاز، بما يعادل نفس الكمية المتراجعة، من إسرائيل، والتي تبدأ عادة بوقف تشغيل مصانع الأسمدة والبتروكيماويات وتخفيف الضخ للمناطق الصناعية الكبرى، مع زيادة اعتماد محطات توليد الكهرباء على الماوزت والغاز المُسال القادم من الخارج بكفاءة خلال الفترة المقبلة، بغض النظر عن دوام حالة الحرب من عدمها.
وأضاف فؤاد في تصريح لـ"العربي الجديد" أن أزمة الإمدادات الإسرائيلية تأتي مع ذروة استهلاك الكهرباء بسبب ارتفاع درجات الحرارة، وزيادة الاعتماد على أجهزة التكييف، بما يتطلبت الإسراع في تعزيز قدرات قطاع البترول في إعادة تغويز الغاز المُسال من خلال وحدات عائمة جديدة.
وكانت مصادر مطلعة في قطاع الطاقة قد كشفت أنّ مصر أبرمت اتفاقيات خلال الأسابيع الأربعة الماضية، مع عدد من شركات الطاقة العالمية، من بينها "أرامكو" السعودية و"ترافيغورا" سنغافورة و"فيتول" هولندا، لشراء ما بين 150 و160 شحنة من الغاز الطبيعي المُسال بقيمة تتجاوز ثمانية مليارات دولار، لتأمين احتياجاتها من الكهرباء حتى نهاية عام 2026.
جاء التحرك في إطار توجه استراتيجي يهدف إلى تأمين إمدادات مستقرّة من الغاز وتقليل الاعتماد على السوق الفورية، في ظل انخفاض الإنتاج المحلي وتزايد الضغط على الشبكة الوطنية للطاقة.
وأدى تراجع الإنتاج من الحقول المحلية، بالتزامن مع تزايد عدد السكان وارتفاع درجات الحرارة، إلى زيادة الطلب محلياً، ما جعل مصر مستورداً رئيسياً. وسيُستخدم ما بين 50 و60 شحنة من المتفق عليها لتغطية الطلب خلال الصيف هذا العام، والباقي حتى 2026، ويأتي ذلك بالإضافة إلى 75 شحنة اشترتها القاهرة بالفعل هذا العام. وسيبلغ إجمالي الشحنات 235 شحنة للعامَين الحالي والمقبل. وجاء سعر الشحنات بعلاوة تتراوح بين 0.70 و0.75 دولار عن سعر الغاز القياسي الأوروبي في مركز "تي.تي.إف" الهولندي، مع إمكان تأجيل الدفع تسعة أشهر.
وكانت مصر حتى عام 2022 من بين الدول المصدّرة للغاز المُسال في المنطقة، مدعومة بحقول ضخمة مثل "ظهر" في البحر المتوسط، غير أن تراجع الإنتاج منذ النصف الثاني من عام 2023 إلى متوسط 4.4 مليارات قدم مكعبة يومياً، مقارنة باحتياجات داخلية تتجاوز 6.2 مليارات قدم مكعبة، دفع البلاد إلى سدّ فجوة استهلاك يومية تقدّر بـ1.8 مليار قدم مكعبة من خلال الواردات.
