عن عودة جورج صبرة... ردّاً على معن البياري
Arab
1 week ago
share

في اللحظات الثورية الكُبرى، كثيراً ما تميل الحركات السياسية إلى التحالف مع قوى متباينة الأيديولوجيات، تحت راية الهدف المشترك: إسقاط النظام القائم. يبدو هذا الخيار في ظاهره براغماتياً، خصوصاً حينما تكون الثورة في مواجهة قوّة عنيفة كالنظام السوري. لكن هذا الخيار قد يتحوّل إلى أخطر باب يُفتح أمام قوىً ذات مشاريع استئصالية تناقض جوهر الثورة الديمقراطية. هذا الدرس لم يعد افتراضاً نظرياً في الحالة السورية؛ بل تحوّل واقعاً ملموساً، مع وصول أحمد الشرع (الجولاني سابقاً) إلى سدّة الحكم في دمشق، بعد مسار بدأ بجبهة النصرة، ثمّ هيئة تحرير الشام، وانتهى بتفكيك هذه البُنى الشكلية، من دون أن يتغيّر الجوهر السلطوي القائم على احتكار العنف ورفض التعدّدية.

حين صرّح جورج صبرة، في ذروة الثورة، أن "جبهة النصرة جزء من الثورة"، لم يكن يمارس مجرّد قراءة ميدانية

كتب معن البياري، في مقاله "جورج صبرة في دمشق" ("العربي الجديد"، 9/6/2025)، عن عودة صبرة إلى دمشق، معتبرا أن ليس "الخبرُ هنا بالضبط؛ بل في أنّ هذا المناضل هو مَن أشهَرَ تصريحاً مثيراً في ديسمبر/ كانون الأول 2012، فظلّ، بسببه، يُلاحَق بالانتقادات والإدانات وسلالٍ من السخرية والتهكّم والتجريح، لمّا قال إنّ جبهة النصرة جزءٌ من الثورة السورية، وليست تنظيماً إرهابياً، وهاجم الولايات المتحدة لتصنيفها هذا"، وأن صبرة يعود "وجبهة النصرة التي صارت هيئة تحرير الشام هي السلطة في سورية، وفي سدّة الحكم ورئاسة الدولة، فيحقّ له أن يزهو بقولته تلك، قبل 12 عاماً، على شاشة واحدةٍ من أشهر التلفزات الأميركية (والعالمية حكماً)، فهذا رئيس الولايات المتحدة يُجالس زعيم هذه الجبهة الذي يتقاطر إليه مسؤولونٌ كبار من الشرق والغرب (إلّا من تونس!) للتحاور معه، ولعرض وسائل إعانة سورية وإسعافها". ولكن تصريح جورج صبرة، أحد قادة حزب الشعب الديمقراطي السوري، بأن "جبهة النصرة جزء من الثورة السورية"، كان في حينه انعكاساً لهذا الميل البراغماتي: القبول الضمني بدور الفصائل الجهادية طالما تقاتل النظام. ومن منظور علم الاجتماع السياسي للثورات، مثل هذا الميل مفهوم: في فترات الصراع الحاد، تذوب الحدود بين قوى متنافرة في المعركة ضدّ العدو المشترك. لكن الحالة السورية تثبت اليوم أن مثل هذا القبول لم يكن مجرّد خطأ في تقييم اللحظة؛ بل كان باباً مكّن القوى الجهادية من الهيمنة على الفضاء الثوري، وتحويل المسار من مشروع ديمقراطي تعددي إلى مشروع سلطوي جديد، يستند إلى سردية جهادية صاغها لاحقاً أحمد الشرع تحت مسمّيات مدنية.

تجارب التاريخ الثوري تؤكّد خطورة هذا المسار؛ في إيران، قبول قوى الثورة بالتحالف مع الإسلاميين المتشدّدين أسهم في انقلاب الخميني على الثورة؛ في ليبيا، تغاضي القوى الديمقراطية عن دور الجهاديين سهّل تفكّك الدولة؛ في إسبانيا، غموض قيادة الجبهة الجمهورية حيال القوى المتطرّفة سهّل انتصار الفاشية. لكن الفرق في الحالة السورية، أن القوة المتطرّفة لم تكتفِ بتقويض المسار الديمقراطي، بل استولت فعلياً على السلطة، عبر إعادة تعريف "الثورة" وفق مشروعها الخاص. وهذا يجعل اليوم مراجعة تصريحات (نحو تصريح صبرة) ضرورةً أخلاقيةً وسياسيةً. لم يكن الأمر مجرّد لحظة "وحدة في الميدان"، بل مساهمة غير مباشرة في شرعنة قوة استئصالية انتهت إلى الإمساك برقبة الثورة والدولة معاً. في المقابل، تجارب ناجحة كالثورة المخملية في تشيكوسلوفاكيا، أو مسار جنوب أفريقيا بقيادة مانديلا، تُظهر أن الحفاظ على التميّز الأخلاقي والسياسي للثورة هو شرط لازم لبناء نظام ديمقراطي. القبول بأيّ تحالف مع قوى لا تؤمن بالديمقراطية، يؤدّي حتماً إلى سيطرة تلك القوى لاحقاً.

الثورة التي تحترم ذاتها لا تحتفل على أنقاض مشروعها. بل تجرؤ على قول: أخطأنا هنا، ولن نُخطئ هناك مجدّدا

اليوم، في سورية الجديدة بقيادة أحمد الشرع، من الضروري الاعتراف بأن فشل جزء من النُّخبة الديمقراطية في رسم حدود واضحة مع النصرة كان أحد أهم أسباب انحراف المسار. فالثورات لا تُهزم بالقمع فقط، بل أحياناً تُخترق وتُختطف من داخلها، حينما تتخلّى عن معيارها الأخلاقي والسياسي. باختصار، الشرعية الأخلاقية ليست ترفاً في زمن الثورة؛ بل هي الدرع الوحيد الذي يحول دون تحوّل مشروع الحرية مشروعَ استبداد مقنّع. هذا الدرس، وإن جاء متأخّراً في سورية، ينبغي أن يُصبح بوصلةً لأيّ مشروع ديمقراطي مقبل.

بالعودة إلى الحدث الراهن: عودة جورج صبرة إلى دمشق. في الظاهر، عودة صبرة حقّ شخصي وإنساني لا يُجادِل فيه أحد. كلّ سوري له الحقّ في أن يرى مدينته بعد سنوات المنفى، غير أننا، حين تتحول هذه العودة مادّةً للاحتفاء السياسي، من دون مراجعة صريحة للمسار الذي انتهى بنا إلى هذا المشهد، نصبح أمام اختبار حيّ لكل ما ناقشناه أعلاه. ثمة تفصيل آخر لا يمكن القفز عنه: جورج صبرة، حين كان في موقع تمثيلي في رأس المجلس الوطني السوري، حصل على الجنسية التركية. ليس هذا في ذاته مأخذاً إنسانياً، لكنه في سياق مسؤولية صبرا السياسية يطرح سؤالاً عن مدى استقلالية القرار الوطني في تلك اللحظة. واليوم، حين يعود إلى دمشق تحت سلطة أحمد الشرع، محمّلاً بهذا الإرث المزدوج (شرعنة قوى استئصالية في الداخل، وارتهان سياسي في الخارج)، يصبح الاحتفاء بعودته من دون مراجعة، ضرباً من تزوير الذاكرة.

حين صرّح جورج صبرة، في ذروة الثورة، أن "جبهة النصرة جزء من الثورة"، لم يكن يمارس مجرّد قراءة ميدانية، بل كان يُساهم في شرعنة مسار تحالفي سرعان ما قاد إلى هيمنة قوى استئصالية. اليوم، تحكم دمشق سلطة أحمد الشرع، ابن هذا المسار نفسه. فهل الاحتفاء اليوم هو احتفاء بحقّ عودة رجل إلى وطنه، أم هو (من حيث لا ندري) محاولة لتبييض سردية سياسية فشلت في حماية الثورة الديمقراطية؟... الثورة التي تحترم ذاتها لا تحتفل على أنقاض مشروعها. بل تجرؤ على قول: أخطأنا هنا، ولن نُخطئ هناك مجدداً.

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows