في ظلّ التحوّلات الجذرية التي تشهدها سورية منذ سقوط نظام الأسد في ديسمبر/كانون الأوّل 2024، وتشكيل حكومة انتقالية برئاسة السيد أحمد الشرع، تُفتح صفحة جديدة من تاريخ البلاد، وتبدأ مرحلة محمّلة بالتطلعات والشكوك، تتطلّب فهماً دقيقاً للبُنى السياسية الأساسية: الدولة والحكومة والنظام السياسي. هذا التمييز ليس ترفاً أكاديمياً، بل أداة تحليلية، وضرورة عملية لضمان نجاح المرحلة الانتقالية، وبناء سورية على أسس حديثة وعادلة.
الدولة: البنية السيادية والمؤسساتية الدائمة
الدولة تمثّل الكيان القانوني والسيادي الذي يشمل الأرض والسكان والسلطة، وهي الإطار المؤسّسي المُستمر الذي يحافظ على الهُويّة الوطنية ويظلّ قائماً رغم تغيّر الحكومات أو الأنظمة. في السياق السوري، إعادة بناء الدولة لا تعني تفكيكها أو محو تاريخها، بل تعني إصلاح وتطوير مؤسّساتها الأساسية، مثل القضاء والأجهزة الأمنية والإدارة المحلية، بما يجعلها خادمة للمجتمع وصائنة حقوقَ المواطنين، لا أداة قمع وظلم. وهذا الإصلاح يُعدّ حجر الزاوية لضمان استقرار البلاد وبناء مستقبل ديمقراطي وشفّاف.
الحكومة: الجهاز التنفيذي المتغير
في مارس/آذار 2025، أعلن الرئيس الانتقالي أحمد الشرع تشكيل حكومة انتقالية متعدّدة الأطياف. حيث تمثّل الحكومة السلطة التنفيذية التي تُدير شؤون البلاد اليومية خلال فترة مؤقتة. وبما أنها نتاج توازنات قوى مرحلية، فإنها عرضة للتغيير وفقاً للمصالح السياسية أو تطوّرات الوضع الداخلي.
لا بُدّ من نظام سياسي يُنتَج من الداخل، ويعبّر عن التعددية، ويخضع للمساءلة، ويكرّس سيادة القانون
ولكن الأهم من ذلك هو عدم دمج الدولة في الحكومة، فالحكومة ليست هي الدولة، ولا يجوز اختزال سيادة سورية أو شرعية مؤسّساتها في أداء جهاز تنفيذي مؤقّت. إنّ الفصل الواضح بين الدور الحكومي المؤقّت والبنية الدائمة للدولة هو شرط أساسي لحماية الاستقرار وضمان استمرارية الدولة، مهما تغيّرت الحكومات أو تبدّلت الظروف.
النظام السياسي: شكل ممارسة السلطة
النظام السياسي هو الإطار الذي تُمارَس من خلاله السلطة، سواء كان رئاسياً أو برلمانياً أو مختلطاً. وفي سياق المرحلة الانتقالية، تسعى سورية الجديدة إلى تحديد هذا الشكل بما يتناسب مع تطلّعات شعبها.
وقد نصّ الإعلان الدستوري المؤقّت الصادر في مارس/آذار 2025 على اعتماد نظام رئاسي مؤقّت بصلاحيات واسعة للرئيس، وهو ما أثار جدلاً مشروعاً حول خطر إعادة إنتاج الاستبداد تحت غطاء شرعي. حيث تشكّل هذا النظام نتيجة توافقات بين الأطراف الإقليمية والدولية، ورعاية أممية غير مباشرة، واعتُمد صيغةً مؤقّتةً لضمان وحدة القرار. إلا أن بنيته ما زالت غير راسخة.
إنّ هذا يطرح تساؤلات عن مدى ابتعاد هذا النظام عن بناء دولة وطنية تشاركية. فالنظام الحالي لا يعكس بعد عقداً اجتماعياً جديداً بقدر ما هو اتفاق توازن قوى هش، بانتظار بلورته دستورياً في المستقبل القريب.
لا تُختزل الدولة في السلطة، والسلطة لا تُختزل في الأفراد، والمستقبل لا يُبنى على التوازنات وحدها، بل على الشرعية الشعبية التشاركية
لكن من المهم التأكيد أنّ تغيير النظام السياسي لا يعني إسقاط الدولة أو هدم بنيتها، بل يُقصد به إعادة تنظيم العلاقة بين المواطن ومؤسّسات الحكم على أسس جديدة تقوم على التمثيل والمساءلة وسيادة القانون.
التحديات والفرص في المرحلة الانتقالية
يكمن التحدي الأبرز في قدرة الحكومة الانتقالية على إدارة التعدّدية وتجنّب الإقصاء، وعلى بناء عقد اجتماعي جديد يشمل جميع المكونات، لا سيما الأكراد والفئات الأخرى. فـ"الشرعية الثورية" وحدها لا تكفي لإدارة دولة، بل يجب أن تُستكمل بـ"شرعية دستورية ومجتمعية" تُبنى على التوافق لا الغلبة.
في المقابل، تُتيح هذه المرحلة فرصة نادرة لتجاوز نموذج المركزية المطلقة، وإعادة توزيع السلطة بين المركز والأطراف بما يعزّز المواطنة المتساوية والعدالة وبناء دولة جامعة لا مهيمنة.
إنّ التمييز بين الدولة (الكيان الجامع) والحكومة (الوظيفة المؤقتة) والنظام السياسي (أداة ممارسة السلطة) هو شرط أساسي لتفادي الوقوع في الفخ القديم: شخصنة الحكم واحتكار القرار.
لأجل سورية المستقبل، لا بُدّ من نظام سياسي يُنتَج من الداخل، ويعبّر عن التعددية، ويخضع للمساءلة، ويكرّس سيادة القانون. فالدولة لا تُختزل في السلطة، والسلطة لا تُختزل في الأفراد، والمستقبل لا يُبنى على التوازنات وحدها، بل على الشرعية الشعبية التشاركية.
إن الطريق نحو بناء سورية جديدة يبدأ من فهم هذه المفاهيم بعمق، والتعامل مع الدولة باعتبارها مصلحة وطنية جامعة لا غنيمة سياسية مؤقّتة.
Related News


