لم أكن أبدًا من المُعجبين بالنظام الصيني ولا برموزه التاريخيين، وعلى رأسهم ماو تسي تونغ، وبالمقابل، كنت مُعجبًا كثيرًا بالثقافة الصينية، ربما بتأثير من أفلام الأكشن التي كنّا مولعين بها حين كنا صغارًا. كنّا آنذاك لا نفوّت أيّة فرصة لمشاهدتها على الشاشة العملاقة، ونفتعل الأفاعيل للحصول على نصف درهم ثمن تذكرة تُمكننا من التفرّج على نسختها الرخيصة صباح كلّ يوم أحد في سينما الأطلس، قبل أن تغلق هذه الدار وباقي دور السينما أبوابها، لتحرمَ الأجيال الحالية من متعة التفرّج على الأفلام في السينما في مدينتنا الصغيرة.
طفا كلّ هذا على صفحة مخيلتي وأنا أتابع مُجريات الحرب التي شنّها الرئيس الأميركي دونالد ترامب على العالم وخاصة الصين، وذكّرني بأحد أفلام المانغا (إذا لم أكن مخطئًا في التوصيف) الذي كنا نتابعه سنوات التسعينيات من القرن الماضي، وتسمّى نسخته العربية "صراع الجبابرة". صراع العملاقين العالميين، أقوى اقتصادين على وجه البسيطة، حبس أنفاس العالم، قبل أن يتنفس الصعداء من جديد بإعلان الجانبين عن انطلاق مفاوضات من أجل نزع فتيل هذا الصراع الذي لن تستثني تداعياته الكارثية أحدًا، خاصة الاقتصادات الهشّة، التي يلخص مصيرها أحد الأمثلة الذي كانت ترميه في وجهنا والدتي من حين لآخر، وهذه ترجمته العربية: "عندما تتعارك الثيران تموت العجول تحت الحوافر".
ما استرعى انتباهي ودفعني إلى مراجعة قناعاتي السلبية عن النظام الصيني الطريقة السليمة التي أدار بها هذا الصراع، مقابل التخبّط الكبير الذي أبان عنه الجانب الأميركي، ووصل إلى حدّ البلطجة الاقتصادية، ناهيك عن التنمّر والابتزاز والعنجهية... وتأكيد الجانب الصيني ضرورة احترام الصين، شعبًا ونظامًا وحضارة عريقة، قبل أي لقاءات أو مفاوضات بين الجانبين، لأستعيد جملة كان نطق بها الرئيس الصيني تشي جين بينغ عندما قال في إحدى المناسبات المهمة التي احتفلت بها دولته، إن لم تخني الذاكرة: "لقد انتهى زمن التنمّر على الصين". وبالفعل، أكّد الجانب الصيني هذه المقولة بالثبات على مواقفه، وردّ بالمثل على المناورات الصبيانية للجانب الأميركي وووقف موقف الند للند أمام الغطرسة الأميركية التي تذكّر بأفلام الويسترن الرديئة.
حضارة مهيمنة على جميع الصعد وحضارة تثبت كلّ يوم أنها جديرة بأن تعلن نفسها قوّة صاعدة، وربما تزيح المُهيمن الحالي
إنّ الصراع الحالي لا يستمدّ قوّته من الجانب الاقتصادي فقط، لكنه أبعد بكثير من ذلك. إنه صراع بين ثقافتين، ثقافة الشرق وإرثها الروحاني القديم وثقافة الغرب المُشبعة بثقافة المادة. حضارة مهيمنة على جميع الصعد والمناحي الاقتصادية والعسكرية والثقافية... وحضارة تثبت كلّ يوم أنها جديرة بأن تعلن نفسها قوّة صاعدة، وربما تزيح المُهيمن الحالي.
مع أميركا الماضي كان صراع الصورة محسومًا لصالح أميركا باعتبارها قائدة العالم الحر المنادي بالديمقراطية وحقوق الإنسان، وإن لم تكن تحترم هذه الخطابات في جميع الحالات، لكن على العموم، كانت هذه الخطابات تزيّن وجه الهيمنة القبيح، قبل أن يأتي دونالد ترامب ويزيل هذا المكياج، ليصاب الكثير من الناس حول العالم، خاصة أولئك الذي يعتبرون الغرب صاحب مشروع حضاري إنساني، بخيبة أمل كبيرة.
Related News
