
تحاول منصات الإعلام المستقلة في الجنوب السوري مواجهة التحديات الجديدة التي نشأت بعد سقوط نظام الأسد في ديسمبر/كانون الأول الماضي، من فوضى واصطفافات وخطاب طائفي مؤجج وانتشار للأخبار الكاذبة، وسط غياب الإعلام الرسمي عن الساحة. ووجدت 14 منصة إعلامية محلية في محافظتي درعا والسويداء أن خروج ميثاق الشرف الإعلامي إلى النور هو صيانة للسلام، وطريق مستدام لإعلام متوازن ومستقل يحافظ على الشفافية، ويحارب الخطاب المتطرف.
وُقّع "ميثاق شرف لمنصات الجنوب الإعلامية" في 31 مايو/أيار الماضي، وأحدث صدمة إيجابية مفاجئة وتحد على جميع المستويات، قابلته محاولات عديدة لتخوين المنصات الإعلامية الموقعة والعاملين فيها. وقع هذا الميثاق بعد جهود استمرت لأكثر من أربعة أعوام تحت إشراف منظمة "بلدي" بالشراكة مع منظمة "تسامح من أجل مستقبل سورية".
وفقاً لمدير البرامج في "بلدي"، معين جاد الكريم أبو عاصي، فقد انطلقت المبادرة قبل سقوط نظام الأسد الذي "عمل جاهداً على تمزيق النسيج الاجتماعي لمحافظتي درعا والسويداء مستخدماً الإعلام وسيلةً للتضليل والتحريض، وأحدث هذا خللاً في الخطاب الإعلامي المحلي ضمن الجنوب السوري، الأمر الذي استدعى إطلاق مشروع حوار بين منصات الجنوب تبنته منظمة بلدي بالتشارك منع منظمة تسامح من أجل مستقبل سورية". ويضيف أبو عاصي: "استطعنا في فترة قصيرة جمع 14 مؤسسة إعلامية مؤثرة في المحافظتين، وقدمنا تدريبات تتعلق بمهنية العمل الصحافي والتمكين الإعلامي، ركزت على تبني خطاب مناهض لخطاب الكراهية ويسعى لتعزيز السلم الأهلي، خصوصاً بعد سلسلة من النزاعات الدموية بين فصائل مسلحة من المحافظتين". يفيد بأن "معظم المؤسسات الإعلامية في الجنوب السوري ولدت من رحم الحرب السورية، والعديد من كوادرها غير مختص ويعمل ضمن ظروف أمنية واجتماعية سيئة"، ويضيف أن "هذا ما شجعنا أكثر على تبني هذه الخطوة، فانطلقنا من عمق التاريخ المشترك بين السهل والجبل، والإرث التاريخي الجامع للأجداد من تشاركية في النضال ضد المستعمر والطغاة، وما ورثه الأحفاد من تقاليد وأعراف ميّزت الجنوبيين".
يبين أبو عاصي أنه بعد جلسات حوارية طويلة ومكثفة، أمكن الوصول إلى مسودة ميثاق شرف بين منصات إعلامية "كان لها الأثر الأكبر في وأد الفتن بين المحافظتين ودعم العمل المشترك وحفظ السلم الأهلي، بعد تمكين العاملين في بعض المؤسسات من مراعاة المهنية والموضوعية والدقة في نقل الخبر، بالإضافة للاتفاق على قاموس من المصطلحات اللازمة لنبذ خطاب الكراهية ومناهضة التفرقة ووأد الفتنة". والآن، يلفت أبو عاصي إلى أن "هذا العمل أخذ من وقتنا الجهد والزمن اللازم لإنجازه، وهو ضرورة ملحة في ظل هذه التحديات الكبيرة التي تواجه بناء الدولة السورية ومنظومة إعلامها، ونعتبره اللبنة الأولى في طريق إنجاز ميثاق شرف هادف لصون الحقيقة وتعزيز السلم الأهلي ومناهضة الأخبار المضللة والتجييش الطائفي، وكذلك خطوة أولى لميثاق شرف يضم معظم منصات الإعلام السورية المستقلة".
لكن الإعلان عن الميثاق أثار تفاعلاً متبايناً بين المتابعين. بينما رأى فريق أنه خطوة ضرورية لاحتواء الشحن الطائفي، اعتبر آخرون أنه يتجاهل مشاعر الجمهور ويبتعد عن قضاياه الجوهرية. كما شكك آخرون في إمكانية الالتزام العملي ببنود الميثاق عند أول اختبار ميداني. ورداً على هذه الانتقادات، قدم الناشط الإعلامي في موقع الراصد، منيف رشيد، نموذجاً عملياً لتطبيق الميثاق، مؤكداً أن مؤسسته تعمل بهذه المبادئ منذ تأسيسها، مما أكسبها مصداقية لدى الجمهور رغم الهجمات التي تعرضت لها خلال موجة التحريض الأخيرة. مشيراً إلى أن اتباع منهجية مهنية صارمة في التحقق من المعلومات، ومراعاة الخصوصيات المجتمعية، أسهم في زيادة المتابعين بنسبة 300% خلال فترة الذروة في انتشار خطاب الكراهية.
وفي مقابل هذه الجهود، يلاحظ مراقبون تقاعس الإعلام الرسمي السوري عن مواجهة خطاب الكراهية، بل تكراره لأساليب النظام السابق في بعض الأحيان، ليقع في فخ التحريض وبث خطاب الكراهية. هذا الفراغ الإعلامي سمح بانتشار الأخبار المضللة ورواج الروايات التحريضية، خاصة في القضايا الشائكة التي تتطلب تغطية متوازنة. وفي هذا السياق، يقول المواطن خالد المقداد من درعا لـ"العربي الجديد" إن الإعلام الرسمي "لم يُسجّل معاناتنا، بل عمّقها. تقاعسه عن مواجهة خطاب الكراهية وتكراره لأساليب النظام السابق حوّله إلى أداة تأجيج. خلال الاعتداءات التي تتعرض لها جارتنا السويداء من مجموعات منفلتة تطلق القذائف من مناطق تقع بين درعا والسويداء، ولم نرَ من الإعلام الرسمي سوى صمتاً يُضفي شرعيةً على التحريض، أو تغطياتٍ مختزلةً للأزمة". ويرى أن مقارنة المنصات المحلية، مثل "شبكة الراصد" أو "درعا 24"، بالإعلام الرسمي، "تكشف التناقض؛ تصحيح الأخبار خلال ساعاتٍ يُثبت أن المشكلة ليست مشكلة إمكاناتٍ، بل إرادة سياسية". ويطالب بإجراءات "ملحة وعاجلة، تتلخص في إنشاء وحدات تحقق ميدانية تابعة لوزارة الإعلام، وإحداث منصة شكاوى مستقلة للإبلاغ عن التحريض، وإجراءات علنية لمحاسبة قانونية للمتورطين في بث الأكاذيب". ويقول: "كفانا وقوداً لحرائق الإعلام. التحريض يذبح الحقائق والأبرياء".
من جهة ثانية، يرى الكاتب والباحث زيدون الزعبي، في حديثه لـ"العربي الجديد"، أن نجاح الميثاق مرهون بتطوير آليات تنفيذية فاعلة. مقترحاً إنشاء هيئة رقابية مستقلة مكونة من خبراء في القانون والإعلام والمجتمع المدني أو منبثقة عن المؤسسات الموقعة على الميثاق، مع تطوير نظام شكاوى شفاف يضمن التزام المؤسسات بما وقعت عليه وحمايتها أيضا من أي انتهاكات، مشيراً إلى أهمية الاستفادة من تجربة "لجنة الشكاوى" في ميثاق شرف الإعلاميين السوريين الذي أُطلق في إسطنبول عام 2014. ويشدد على أنه على المؤسسات الموقعة أن تتحلى بمرونة عالية في تقبل النقد والالتزام بالضوابط الأخلاقية التي أقرتها على نفسها. ويرى الزعبي أن الإعلان عن الميثاق جاء "في مرحلة مفصلية، تمارس خلالها مواقع التواصل الاجتماعي دوراً تحريضياً يستهدف المجتمع والدولة في وقت هو بأمس الحاجة للاستقرار". ويحذر من أن "التحريض يولّد تحريضاً، ومناهضة التحريض تكون بعدم الرد بالمثل والالتزام بمقومات العمل الصحافي المهني والأخلاقي"، ويقر بأن خطوة مواجهة هذا السيل الكبير من التحريض في منصات الجنوب يحتاج إلى الكثير من المقدرة والشجاعة. ويقول: "في الوقت الذي ينتظر البعض من المؤسسات الإعلامية التعاطف مع المكوّن المحيط لتحظى باستقطاب أكبر عدد منهم، فمن الشجاعة والقوة حينها لهذه المؤسسات أن تبحر بعكس هذا التيار التحريضي، لأنها بالنتيجة توقف التحريض على ذاتها وتساهم إلى حد كبير في بناء الدولة من خلال إرساء مدعمات السلم الأهلي".
يبقى الطموح الأوسع للمبادرة، بحسب القائمين عليها، هو توسيع نطاق الميثاق ليشمل المنصات الإعلامية السورية المستقلة في محافظات الجنوب ثم في مختلف المحافظات السورية. وبين المبدأ والتطبيق، يُجمعون على أن قيمة الميثاق ستُقاس بقدرته على تجاوز الإطار النظري إلى التطبيق العملي، خاصة في الأزمات الكبرى. وبينما تشكل التجربة الجنوبية نموذجاً أولياً لإعادة بناء الثقة في العمل الإعلامي السوري، ويبقى نجاحها مرهوناً بتضافر جهود المؤسسات الإعلامية والجمهور والمنظمات الداعمة لإرساء آليات رقابية فاعلة وشفافة. وفي المشهد الإعلامي السوري المعقد، حيث تتداخل الخطوط الحمراء وتتصارع الروايات، يمثل هذا الميثاق محاولة جادة لرسم مسار مهني مستقل، قادر على تحويل الكلمة من أداة تحريض إلى جسر للحوار.

Related News


