هروب سيدة القصر وشتات العلاقات المعولمة
Arab
2 weeks ago
share

يُقدّم فيلم "عشيق الليدي شاترليه"، المُقتبَس من رواية بالعنوان نفسه لديفيد هِربرت لورانس، نموذجَ قصّةِ حبٍّ مستحيلة بين سيّدة نبيلة وعامل في عقار زوجها. الرواية عمل رومانسي عتيق الطراز، نجح في عالم الأدب الكلاسيكي، لكنّه لا يكاد يغادر عوالم روايات الرومانسية سريعة الاستهلاك، التي تسيطر على قوائم "الأكثر مبيعاً".

نحن أمام حبّ مستحيل يصبح ممكناً حين تقرّر العاشقة التي تقيم في قصر أن تهجره لتعيش مع حبيبها الفقير في بيت بسيط. تعمل في الأرض والبيت، وتنجب قدراً كبيراً من الأطفال. الحبّ في القصة هو البطل، فلم نعرف عن البطلة أيّ مهارة أو طموح أو اجتهاد في الحياة الأولى، لكنّنا نجدها تكدّ في العمل الشاقّ خلال حياتها الثانية. ورغم أن الحياة الأولى كانت تتيح لها دوراً رمزياً في المجتمع، بصفتها زوجة اللورد صاحب الأرض، إلا أن ما رأيناه منها لا يتعدّى صداقتها مع بسطاء من عمّال زوجها وعاملاته.

لا تساوي الأحداث بينها وبين الحبيب في القوة والنفوذ في الحبّ، رغم أنها سيّدته، وهو حارس عقار زوجها، فصحيحٌ أنها من أغوته في المرّة الأولى، لكنّها خضعت لقواعده. وعندما غادرت القصر معه، صارت مثل بقيّة النساء في الطبقة الكادحة تعمل أكثر ممّا يجب، وتنجب أكثر ممّا يجب. وفي حياتها زوجةً للورد، لم تكن لها طموحات في دور أكبر من مجرّد رعاية زوجها المقعد، بسبب إصابة حرب. لكن هذه المرأة، غير الراضية عن حياتها، ولم تغيّرها الحياة، تتخذ قراراً مستحيلاً بأن تترك كلّ شيء خلفها، وتركض خلف الحبّ.

كانت موانع الحب في قصصه الصعبة في الماضي غالباً ما تتمثّل في الفروق الطبقية بين الحبيبَين، وبنسب قليلة قد تأتي من فروق الأديان والثقافات، لأن الاختلاط كان قليلاً، ومعظم المجتمعات كانت غالباً موحّدةَ الانتماء الديني والعرقي. الحبّ حديثاً، قد تعرقله الموانع نفسها، لكنّ مشكلاته الأكبر لا تأتي منها، حسب كتاب "الحبّ عن بعد: أنماط حياتية من عصر العولمة"، لأولريش بك وإليزابيث بك غرنزهايم.

إذ تطرح أمام الحبّ صعوبات كثيرة، ممّا جعل من الاستمرار التحدّيَ الأكبر أمامه، وليس الارتباط. والتحدّي الثاني خلقته طبيعة الحياة المعاصرة، فيبني الناس علاقات اجتماعية عن بعد أكثر ممّا يفعلون في الواقع، ومن بينها علاقات "الحبّ النائي".

ينصح بعضهم بأن يكون الحبّ النائي علاجاً لخيبة الأمل التي قد يلاقيها المرء في الحبّ الداني، ويثني بعضهم على الحبّ الداني لعلاج الإشكالية نفسها، وهي خيبة الأمل في الحبّ النائي. ينتعش هذا الأخير بلا تبعات المعايشة اليومية. لكن إشكاليته أنه لا يفصل العلاقة عن الحياة اليومية، إنما أيضاً عن الحياة الجنسية، حسب الكاتبَين بِك، فتغيب الواقعية من هذا الحبّ في نظر معارضيه. فيصبح الحبّ مستحيلاً بسبب ذلك، مع أنّه قد يتلاشى أيضاً بسبب الأمرَين في الحياة اليومية، فمعظم حالات الانفصال والطلاق تنتج من مشكلات الحياة اليومية، ومن الاختلاف في العلاقة الجنسية أو برودها.

يشير كتاب "الحبّ عن بعد" إلى أنه في حين عرض الأدب الكلاسيكي "الهروب من الأسرة ومن سيطرتها وقيودها باعتباره الموضوع السائد في العصور القديمة" ليتحقّق الحبّ، ركّزت النصوص الجديدة في عدم جدوى طلب السعادة المطلقة بعد التحرّر من الأسرة، فالآخر ليس معفياً من تخييب الأمل. فحتى عندما صار الحبّ فردياً، لم يَعْنِ ذلك أن العلاقة ستستمرّ. فالأصعب هو استمرار الحبّ لا بدايته وتحقّقه. وهنا تغيّر القالب الأساس للعلاقة، وصار يدور حول "الجنس والحبّ والأطفال والرعاية، وكيف الحفاظ على ذلك وتنميته".

ولم تعد تحدّيات الأسرة ذات أبعاد جغرافية واجتماعية وثقافية محلّية، بل صار التحدّي هو بناء "الأسرة المعولمة"، التي تجسّدها علاقات الحبّ أو علاقات القرابة بين ثنائيات من البشر، الذين يعيشون في بلاد أو قارّات مختلفة، أو أولئك الذين يأتون من بلاد أو قارّات مختلفة. فمنذ مشارف القرن الواحد والعشرين استشرت صورة الحبّ الفردي، وتم القبول بشكل متطرّف للحبّ، فكل شيء يميل إلى "أنا"، وكلّ شيء يدور حتى تتحقّق صورة الحبّ لدى فرد واحد، حبّ يدور حوله وفي مقاسه، وهو الحبّ المستحيل في هذا الزمن، فالكلّ لديهم هذه الرغبة، فتصطدم رغبات الجميع، وينكسر الحبّ.

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows