الاستبداد بوصفه ثقافةً لا حادثةً سياسيةً
حين يُطرح الاستبداد في الخطاب السياسي العربي، غالبًا ما يُختزل في شخص الحاكم بوصفه المتسبب الوحيد في الانحدار السياسي والاجتماعي. غير أن هذا التفسير يتغافل عن البُعد الأعمق: الاستبداد ليس مجرد إرادة فرد، بل هو منظومة ثقافية تتغذى على سلوك الجماعة، وتجد في صمتها أو تهليلها بيئة خصبة للنمو.
في هذا السياق، تُعدّ ثقافة التطبيل السياسي واحدة من أهم أشكال التواطؤ الجمعي مع السلطة، حيث يُعاد إنتاج الطغيان اجتماعيًا، ليس فقط عبر أدوات القمع، بل من خلال تطبيع الولاء المطلق وتمجيد السلطة حدّ التقديس.
التطبيل باعتباره آليةً نفسيةً للهروب من مواجهة الواقع
لا يمارس بعض الأفراد التطبيل حبًا في الزعيم، بل هروبًا من مواجهة واقع قاسٍ وعجز مزمن. فحين يُغلق باب الأمل في التغيير، يتحول الولاء إلى آلية دفاع نفسي، يُقنع بها الإنسان نفسه بأن الأمور "بخير" ما دام القائد موجودًا.
وهنا تكمن خطورة الظاهرة: فهي ليست فقط نفاقًا سياسيًا، بل اضطراب إدراكي يجعل من الصعب التمييز بين الولاء والانقياد، بين الوطنية والتبعية.
الإعلام والتعليم: مؤسسات لإعادة إنتاج الطاعة
تلعب أدوات التنشئة الاجتماعية، وعلى رأسها الإعلام والتعليم، دورًا جوهريًا في ترسيخ عقلية التقديس. فحين يُصوَّر الحاكم في المناهج "رمزاً خالداً"، ويُمنع نقده في الفضاء العام، ويُجرَّم المعارض، تُصبح ثقافة الطاعة متجذرة منذ الطفولة، ويُغيّب الحس النقدي.
وليس غريبًا أن يُربّى الطفل العربي منذ صغره على أمثال شعبية تختزل العقل الجمعي، مثل المثل السوري الشهير: "امشِ الحيط الحيط وقول يا ربّ الستـرة"، وهو تعبير عن سياسة الانكماش، والخوف، وتجنّب المواجهة. فهذا النمط من التربية لا يُنتج مواطنًا حرًا، بل تابعًا حذرًا، يرى السلامة في الصمت لا في السؤال، وفي الطاعة لا في النقد.
هنا لا يكون التطبيل مجرد ظاهرة اجتماعية، بل يصبح بنية ذهنية تشكل وعي الأجيال، وتُنتج باستمرار جماهير مهيأة لقبول المستبد، بل والتصفيق له.
الطاغية لا يصنع نفسه: مسؤولية المجتمع الصامت والمشارك
يُخطئ من يظن أن الطغيان يُفرض على الناس من أعلى فقط. الطاغية لا يصنع نفسه، بل يُصنع بتراكم أدوار متداخلة: نخبة سياسية فاسدة، إعلام مُروّج، فئات شعبية صامتة أو متواطئة.
لقد أشار مالك بن نبي إلى هذا المعنى حين تحدث عن "القابلية للاستعمار"، وهي نفسها "القابلية للاستبداد": قابلية نفسية واجتماعية تجعل من الاستبداد نتيجة منطقية لسلوك الجماعة.
الفارق الحضاري: بين القائد "المقدّس" والموظف العمومي
في كثير من المجتمعات الغربية، يُنظر إلى القادة السياسيين باعتبارهم موظفين عموميين، وظيفتهم الأساسية هي خدمة الصالح العام ضمن عقد اجتماعي محدد الصلاحيات والمسؤوليات. فالمناصب العليا هناك لا تُمنح لمن يُصفق له الجمهور، بل لمن يخضع للمساءلة اليومية من الصحافة، والبرلمان، والقضاء، والرأي العام.
الطاغية لا يصنع نفسه، بل يُصنع بتراكم أدوار متداخلة: نخبة سياسية فاسدة، إعلام مُروّج، فئات شعبية صامتة أو متواطئة
تُقاس شرعية القائد هناك بمدى التزامه بالقانون، وشفافيته، وكفاءته في إدارة الملفات، لا بعدد صوره في الشوارع أو صراخ الجماهير باسمه.
وعلى النقيض من ذلك، نجد في العالم العربي أن العلاقة بين الحاكم والمواطن غالبًا ما تكتسي طابعًا عاطفيًا أبويًا، يخلط بين الدولة والحاكم، وبين الولاء للوطن والولاء للفرد. فالحاكم يُقدَّم بوصفه "المنقذ"، و"المُلهم"، و"الرمز الخالد"، وتُمنح له صفات تكاد تُخرجه من دائرة المحاسبة إلى مرتبة التقديس.
وفي هذا السياق، تبدو المقارنة أكثر حدة عندما نستحضر مثالًا من التاريخ الإسلامي نفسه، حين وقف الخليفة الراشد عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، يخطب في الناس، وقال: "ألا لا تُغالوا في مهور النساء"، فاعترضته امرأة من بين الحضور قائلة: "يا عمر، ليس لك ذلك! ألم يقل الله تعالى: {وَإِنْ أَرَدتُّمُ ٱسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَىٰهُنَّ قِنطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا۟ مِنْهُ شَيْـًٔا}؟"، فما كان من عمر إلا أن قال: "أصابت امرأة وأخطأ عمر".
في هذا المشهد، لا نجد زعيمًا معصومًا، ولا جماهير صامتة، بل ثقافة حية ترى في الحاكم بشرًا يُخطئ ويُصحّح، وتمنح المواطن الجرأة على الاعتراض والمساءلة.
هذه المفارقة لا تعكس فقط اختلافًا في النظم السياسية، بل في الثقافة السياسية نفسها. ففي الوقت الذي تُربّى فيه الأجيال الغربية على السؤال والنقد والاحتجاج، وتُربّى فيه الأجيال الإسلامية الأولى على الجرأة في الحق، تُربّى قطاعات واسعة من المجتمعات العربية المعاصرة على الخوف، والطاعة، و"احترام الكبير" ولو أخطأ، من دون مساءلة أو اعتراض.
الخروج من الطاعة الزائفة: نحو عقل نقدي ومواطنة فاعلة
مواجهة ثقافة التطبيل لا تتم عبر الرفض العاطفي أو ردود الفعل الغاضبة، بل من خلال بناء عقل نقدي قادر على مساءلة السلطة، ووعي مواطني يرى في الحاكم موظفًا، لا معصومًا.
الإصلاح الحقيقي يبدأ حين يُستبدل التصفيق بالمساءلة، والمديح بالنقد، والولاء الأعمى بالمشاركة الواعية. فالدولة المدنية لا تُبنى على التمجيد، بل على التوازن بين السلطة والرقابة، بين القيادة والمساءلة.
خاتمة: التطبيل ليس قدَراً، بل خيار ثقافي يمكن تغييره
ثقافة التطبيل ليست قدرًا حتميًا في المجتمعات العربية، بل هي نتيجة لعوامل سياسية وتربوية يمكن تفكيكها. والوعي بها هو الخطوة الأولى نحو تغييرها.
فكما أن الطغاة يُصنعون، كذلك الشعوب يمكن أن تُعيد تشكيل وعيها. حين تتوقف عن التصفيق، يبدأ الحاكم بسماع الحقيقة.. وربما يبدأ الوطن في التعافي.
Related News


