جثث السودان... رفات على الطرقات ومقابر جماعية في الأحياء
Arab
3 hours ago
share

بعد عامَين وشهرَين تقريباً من بداية الحرب في السودان التي أدّت إلى أزمة إنسانية غير مسبوقة، تمثّل الجثث الموزّعة على الطرقات وفي المقابر الجماعية أزمة كبرى، لا سيّما في ولاية الخرطوم التي بدأ أهلها بالعودة إلى مناطقهم ومنازلهم بعد نزوح قسري.

عندما بسط الجيش السوداني سيطرته على العاصمة الخرطوم في مارس/ آذار الماضي، بعد نحو عامَين من المعارك الضارية مع قوات الدعم السريع، واجهت السلطات المدنية معضلة جمع الجثث وإفراغ المقابر الجماعية كما الفردية التي عُثر عليها في الطرقات والميادين العامة وفي داخل أسوار المدارس والمنازل. وبعد مرور ثلاثة أشهر على توقّف العمليات العسكرية في الخرطوم، فإنّ ثمّة جثثاً ما زالت تُرصَد في الطرقات، ويُعتقَد أنّ بعضها يعود إلى بداية الحرب في منتصف إبريل/ نيسان 2023.

وبإمكانيات شحيحة وكوادر بشرية محدودة، يفتقر بعضها إلى التدريب والإعداد، تحاول وزارة الصحة في ولاية الخرطوم ممثّلة بهيئة الطب العدلي حصر القبور الجماعية والفردية، وجمع الجثث من الطرقات والتعرّف على هويات أصحابها. وعلى الرغم من جديّة الجهات الحكومية وسعيها الدؤوب إلى تنظيف المدينة حتّى يتمكّن السكان من العودة إلى منازلهم، فإنّ جهودها تضاءلت أمام العثور على جثث هنا وهناك، في غرف النوم بالمنازل والفنادق وفي آبار الصرف الصحي وخزّانات مياه الشرب وحاويات النفايات.

ورصدت السلطات الحكومية في السودان نحو 250 مقبرة في مناطق متفرّقة من ولاية الخرطوم، تضمّ بحسب التقديرات نحو سبعة آلاف جثّة مجهولة الهوية، ويقول مصدر رفيع في وزارة الصحة بولاية الخرطوم لـ"العربي الجديد": "من المتوقع أن يصل عدد المقابر إلى 500 مقبرة، يتراوح عدد الجثث في كلّ واحدة منها ما بين جثة واحدة وعشرات الجثث"، ويضيف المصدر، الذي فضّل عدم الكشف عن هويته إذ هو غير مخوّل بالتحدّث إلى الإعلام، أنّ ثمّة مقابر تعود إلى بداية الحرب في السودان قبل أكثر من عامَين، عدد منها في داخل منازل ومدارس ومبانٍ حكومية ومقرّات عسكرية وميادين عامة، علماً أنّها بأغلبها تضمّ جثث مدنيين.

ويوضح المصدر نفسه أنّ المقرّات العسكرية، التي عُثر في داخلها على جثث ومقابر جماعية، كانت قد وقعت تحت سيطرة طرفَي النزاع في السودان على التوالي، ويرى أنّه "من غير المتوقّع اعتراف أيّ طرف من طرفَي الحرب بمسؤوليته عن الجثث التي عُثر عليها في المقرّات العسكرية، والمؤسف أنّه من المستحيل التعرّف إلى هويّات الضحايا بسبب وفاتهم قبل مدّة طويلة، بالإضافة إلى ضعف الإمكانيات المادية واللوجستية التي تستخدمها هيئة الطب العدلي التابعة لوزارة الصحة".

عودة معلّقة إلى الخرطوم

وتوقّفت عودة السودانيين إلى منازلهم في الخرطوم بسبب عدم إفراغ المقابر وإخراج الجثث من الطرقات إلى خارج الأحياء السكنية. وفي هذا الإطار، يقول إبراهيم ميرغني، من سكان حيّ الدروشاب شمالي مدينة الخرطوم، لـ"العربي الجديد": "امتنع السكان من العودة إلى منازلهم لأنّ الجثث في الطرقات والمقابر في داخل الأحياء السكنية لم تُفرغ بعد، ولا يُعلَم مَن دُفن فيها، لذلك تريّث السكان في عودتهم في انتظار تنظيف المدينة تماماً"، ويؤكد أنّ "عودة الناس مستحيلة طالما أنّ الجثث أو الرفات أو المقابر الجماعية وسط الأحياء وفي الطرقات العامة".

ويتابع ميرغني أنّه "عندما أبطأت السلطات في نقل الجثث، اضطررنا إلى التوجّه إلى النيابة العامة من أجل إخطارها بوجود جثث في الأحياء، وكنّا نتوقع أن تتكفّل هي بتوجيه طلبات إلى الشرطة لنقل الجثث إلى المستشفيات والمشارح من أجل استكمال الإجراءات القانونية والطبية الخاصة بالضحايا بعيداً عن المناطق السكنية، لكنّنا تفاجئنا بأنّ النيابة تطلب 300 ألف جنيه سوداني (نحو 120 دولاراً أميركياً) من المواطن المُبلّغ لقاء فتح محضر بالبلاغ ومعاينة الجثّة واستكمال الإجراءات القانونية".

يُذكر أنّ النيابة العامة في السودان كانت قد فرضت الرسوم المالية تلك في إبريل الماضي، في الذكرى الثانية للحرب، الأمر الذي أثار لغطاً كبيراً في السودان، بحجّة أنّ القرار عُدّ سابقة تاريخية في عمل النيابة، إذ حوّل الحقّ في التبليغ عن الجرائم والتقاضي إلى خدمة مشروطة بالدفع.

ويلفت إبراهيم ميرغني، في حديثه مع "العربي الجديد"، إلى أنّه "في حال لم يدفع المواطن رسوماً مالية لقاء التبليغ عن وجود جثث، فإنّ النيابة لن تتحرّك لمعاينتها ونقلها، ولو انتظرنا حضور الجهات المختصّة في السودان لنقل الجثث فإنّها في الغالب لن تأتي، وحالياً تحوّلت جثث كثيرة إلى رفات متناثرة".

ويفيد أحد المتطوّعين في لجان الأحياء بالخرطوم (مجموعات أهلية تتعهّد تنظيف الأحياء وتقديم الطعام للسكان غير المقتدرين) بأنّ عدد الجثث في العراء كبير جداً، إلى جانب المقابر الجماعية والفردية، ويضيف المتطوّع، الذي فضّل عدم الكشف عن هويته لـ"العربي الجديد"، أنّه "في إبريل الماضي، رصدنا أكثر من 170 جثّة في حيّ واحد بالخرطوم، وعثرنا على سبع جثث في داخل منزل في مايو/ أيار الماضي، بالإضافة إلى جثث على الطرقات العامة"، مشيراً إلى "مقابر في داخل المنازل، تضمّ في مرّات أكثر من جثّة في القبر الواحد".

بدورها تحوّلت الميادين العامة إلى مقابر كذلك، ويتحدّث المتطوّع نفسه عن "ستّة ميادين عامة موزّعة في أحياء الخرطوم تضمّ مقابر تعود إلى الفترة الممتدّة ما بين إبريل 2023 ويناير/ كانون الثاني 2025، أي فترة سيطرة قوات الدعم السريع على المدينة.

رفع جثث السودان وسط إمكانيات ضعيفة

يترقّب سكان العاصمة جمع الجثث ونقل المقابر بأسرع وقت ممكن حتى يتمكّنوا من العودة إلى منازلهم، بعد نزوح ولجوء استمرّ أكثر من عامَين. أمّا السلطات الحكومية، ممثّلة بهيئة الطب العدلي والنيابة العامة والشرطة، فإنّها تسعى بإمكاناتها الضعيفة إلى التعرّف على الضحايا من خلال اتّباع الطرق القانونية والطبية في التعامل مع مثل تلك الحالات.

ويقول رئيس جمعية الهلال الأحمر السوداني في الخرطوم أسامة سلمان لـ"العربي الجديد" إنّ "ثمّة جثثاً تحلّلت، وليس فيها ما يتيح التعرّف عليها"، ويبيّن أنّهم في الهلال الأحمر السوداني يعملون لـ"جمع الجثث من ضمن لجنة تضمّ كلّاً من هيئة الطب العدلي والدفاع المدني وشرطة الأدلة الجنائية"، ويؤكد أسامة أنّ "الجهات المعنية، من بينها الهلال الأحمر، تتّبع الطرق القانونية والعدلية والطبية في التعامل مع الجثث، من خلال تصاريح لوضع كلّ جثّة في كيس منفصل، وترقيمه، ووضع متعلقات الضحية (إن وُجدت) في داخل الكيس نفسه، قبل تسليمه إلى إدارة الأدلة الجنائية التي تدفنها تحت رقم متسلسل في مقابر جماعية حُدّدت مسبقاً لضحايا الحرب الذين يُعثَر على جثثهم.

ويقرّ مدير الطب العدلي السابق في وزارة الصحة بولاية الخرطوم هشام فقيري بـ"ضعف إمكانيات وزارة الصحة وهيئة الطب العدلي"، ويقول لـ"العربي الجديد" إنّه "لم تكن لدى هيئة الطب العدلي أيّ إمكانيات قبل الحرب، إذ كانت تواجه مصاعب في إدارة الجثث التي كانت تصل إلى المشارح حينها، علماً أنّ عددها محدود جداً"، ويؤكد فقيري أنّ "الوضع الحالي الناتج عن انتشار الجثث والمقابر يتجاوز إمكانيات هيئة الطب العدلي ووزارة الصحة، وبهدف معالجة الأمر في أسرع وقت، لا بدّ من الاستعانة بالمنظمات الدولية والمحلية وإشراك جهات خارجية حتى تتمكّن السلطات المحلية من جمع الجثث ووضعها في أماكن محدّدة من أجل التعرّف إليها لاحقاً".

ويوضح فقيري أنّه "في فترة الحرب، يكون التعرّف إلى الجثث في غاية الصعوبة، لكنّه من الضروري دفنها في أماكن محدّدة واتّباع الإجراءات المعتمدة لذلك. وأتوقّع أن تكون أعداد الجثث كبيرة، بالآلاف، على خلفية القصف المتبادل وحدّة المعارك وكذلك الكثافة السكانية في ولاية الخرطوم والوجود العسكري الكبير"، ويشير إلى "عمليات دفن عشوائية يقوم بها الأهالي، ولا تُتّبَع فيها الإجراءات القانونية اللازمة في مثل تلك الحالات، الأمر الذي يتسبّب في ضياع حقوق الضحايا".

بدوره، يشدّد رئيس المجلس الأعلى للبيئة بولاية الخرطوم بشري حامد أحمد على ضرورة معالجة موضوع انتشار الجثث، قائلاً لـ"العربي الجديد" إنّ ذلك من "المواضيع الملحّة في الوقت الراهن، خصوصاً مع توجّه السكان إلى منازلهم، فثمة جراثيم متحوصلة قد تنتقل إليهم"، ويشرح أنّ "الجراثيم المتحوصلة هي جراثيم تحيط نفسها بكبسولات تظلّ تحتفظ بها إلى أن تجد البيئة المناسبة وتنتقل إليها، وأعتقد أنّ عودة الناس إلى منازلهم وممارسة حياتهم تخلقان بيئة مناسبة لتكاثر هذه الجراثيم".

في سياق متصل، يفيد مصدر في حكومة ولاية الخرطوم "العربي الجديد" بأنّ حكومة الولاية وجّهت بالإسراع في إفراع المقابر في بعض شوارع أم درمان والخرطوم ونقلها إلى المدافن الرسمية، وهو عكس ما تنادي به هيئة الطب العدلي التي تشترط نقل الجثث إلى مقابر جماعية في أماكن خارج المقابر الرسمية القديمة، ويكمل المصدر أنّ "حكومة الولاية تواجه مشكلة في إيجاد أراضٍ تقيم فيها مقابر جماعية تتّسع لتلك الأعداد، إذ إنّ الأراضي المحيطة هي أراضٍ استثمارية يمتلكها أشخاص وجهات استثمارية لا يسمحون باقتطاع أجزاء منها وتحويلها إلى مقابر".

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows