
في تحول استراتيجي متسارع، تمكنت الصين من فرض شروط جديدة على النظام التجاري العالمي عبر سلاح المعادن النادرة، ما أربك الحسابات الأميركية والأوروبية، وأثار قلقا متصاعدا لدى الصناعات الحيوية من السيارات إلى الدفاع. وقال تقرير نشرته "فاينانشال تايمز"، اليوم الأحد، إن بكين نجحت في استخدام قيود التصدير لتقويض سلاسل التوريد العالمية، الأمر الذي منحها نفوذا تفاوضيا جديدا في محادثاتها التجارية مع واشنطن. وقال كبير محللي الشأن الصيني في شركة "كونترول ريسكس" (Control Risks) للاستشارات الأمنية والمخاطر أندرو جيلهولم إن هذه الأدوات تمنح بكين قدرة على التلاعب بالمعادلة التجارية العالمية، عبر تشديد أو تخفيف القيود حسب الحاجة الدبلوماسية.
وتُعد المعادن النادرة من أبرز الموارد الاستراتيجية في الاقتصاد العالمي الحديث، رغم أنها لا تستخرج بكميات ضخمة مقارنة بالمعادن التقليدية، نظرا لأن استخراجها يتطلب عمليات معقدة وصعبة بيئيا. وهي مجموعة تضم 17 عنصرا كيميائيا، من أبرزها النيوديميوم والديسبروسيوم والبروميثيوم، وتدخل في تصنيع الأجهزة الإلكترونية الدقيقة، والطائرات الحربية، والمركبات الكهربائية، وتوربينات الرياح. وتكمن أهميتها في خواصها الفريدة التي تتيح أداء عاليا في مجالات حساسة، ما يجعل الاعتماد عليها شبه حتمي في التكنولوجيا المتقدمة.
تقييد تصدير المعادن النادرة
وأظهرت بيانات صادرة عن وزارة التجارة الصينية أن بكين بدأت منذ إبريل/نيسان الماضي بفرض تراخيص إلزامية لتصدير سبعة أنواع من العناصر الأرضية النادرة ومغناطيساتها، وهي خطوة وصفها الخبراء بأنها موجهة تحديدا للرد على الرسوم الجمركية الأميركية المعروفة بـ"يوم التحرير"، التي فرضها الرئيس الأميركي دونالد ترامب في مايو/ أيار 2025. وتسببت هذه الخطوة الصينية باضطراب شديد في خطوط الإنتاج حول العالم، لا سيما في الصناعات التقنية والعسكرية، بحسب "فاينانشال تايمز".
ونشرت وكالة "أسوشييتد برس"، اليوم الأحد، تقريرا حذرت فيه من أن محادثات لندن المقبلة بين الولايات المتحدة والصين تأتي وسط تراكم الخلافات، ومنها تقنيات الذكاء الاصطناعي، والقيود على تأشيرات الطلاب الصينيين، وملف المعادن النادرة. وتأتي هذه الجولة بعد هدنة مؤقتة لمدة 90 يوما اتفقت عليها واشنطن وبكين في جنيف، إلا أن الطرفين سرعان ما تبادلا الاتهامات بشأن انتهاكها. وصعدت بكين احتجاجاتها إثر إصدار وزارة التجارة الأميركية توجيهات اعتبرت استخدام شرائح أسيند للذكاء الاصطناعي الصينية (Ascend AI) من شركة هواوي انتهاكا للقيود، ما أثار غضب الصين التي وصفت هذه الخطوة بأنها "تجاوز صارخ للتفاهم".
ناقوس خطر في الهند
ودقت صناعة السيارات الهندية ناقوس الخطر بعد تعمق أزمة واردات مغناطيسات المعادن النادرة من الصين، التي تعد مكونا محوريا في المحركات الكهربائية ونظم الكبح التجديدي في السيارات الكهربائية والهجينة. ورغم محاولات الموردين المحليين الحصول على تراخيص تصدير من بكين منذ فرض قيود جديدة في 4 إبريل، لم تُمنح أي موافقات حتى الآن، وفق ما نقلته وكالة أنباء الهند الرسمية (PTI) عن مصادر صناعية.
وحذر خبراء مثل راجات مهاجان في شركة "ديلويت الهند" (Deloitte India)، وهي فرع من شبكة "ديلويت" العالمية للخدمات المهنية التي تشمل التدقيق والاستشارات والضرائب والتمويل، وسري كومار كريشنا مورثي في وكالة آيكرا للتصنيف الائتماني والمخاطر (ICRA)، وهي مؤسسة هندية متخصصة في تصنيف الديون والمخاطر الائتمانية للشركات والقطاع المالي، من ارتفاع تكاليف التصنيع وتوقف محتمل في الإنتاج إذا لم تحل الأزمة بسرعة. ويشمل النقص عناصر نادرة مثل الديسبروسيوم واللوتيتيوم، ما يهدد ليس فقط قطاع السيارات، بل الصناعات العسكرية والإلكترونيات الدقيقة أيضًا.
ودعت شركات مثل شركة "ماروتي سوزوكي الهندية" (Maruti Suzuki)، وهي واحدة من أكبر شركات تصنيع السيارات في الهند، وشركة "باجاج أوتو" (Bajaj)، وهي واحدة من أبرز شركات صناعة الدراجات النارية والمركبات ذات العجلات الثلاث في الهند، الحكومة الهندية للتدخل السريع، حيث بات الحصول على "شهادة المستخدم النهائي" المصادق عليها رسميا شرطا أساسيا لقبول الطلبات الصينية. وتسيطر الصين على أكثر من 90% من طاقة معالجة المغناطيسات عالميا، ما يجعل الشركات الهندية في موقف هش ومكلف في ظل غياب حل تقني فوري لمشكلة اعتماد السوق على المواد النادرة المستوردة من الصين.
وكشف تقرير نشرته "ذا إيكونوميك تايمز"، اليوم الأحد، عن حالة طوارئ متصاعدة في قطاع السيارات الهندي بسبب العجز في الحصول على مغناطيسات نادرة. وقال المدير التنفيذي في "ماروتي سوزوكي" راهول بهارتي إن الموردين الهنود لم يحصلوا بعد على التراخيص الصينية اللازمة، وسط اشتراطات جديدة معقدة، من بينها تقديم "شهادة مستخدم نهائي" موثقة حكوميا. وقد أوقف مصنع "سوزوكي" في اليابان خط إنتاج طراز "سويفت"، فيما بدأت الشركات الهندية تحذر من "مخاطر تضخمية وشيكة" بسبب ارتفاع التكاليف الناتجة عن شح هذه المواد.
قلق أوروبي
وفي حين تستعد لندن لاستقبال وفدين رفيعي المستوى من الولايات المتحدة والصين، يبرز قلق أوروبي متزايد من التأثيرات الاقتصادية والسياسية لحرب المعادن النادرة. وأشارت "فاينانشال تايمز" إلى أن بعض الشركات الأوروبية بدأت تتلقى موافقات محدودة، إلا أن عمليات التصدير لا تزال بطيئة، ما دفع حكومات أوروبية لطرح الملف مباشرة أمام بكين في اجتماعات ثنائية.
ويرى محللون في مركز "تريفيوم" (Trivium) للاستشارات في بكين أن الأزمة قد تتفاقم إذا قررت الصين توسيع نطاق القيود لتشمل عناصر مثل التيتانيوم والمغنيسيوم. وفي هذا السياق، حذر آرثر كروبر، مدير الأبحاث في مؤسسة أبحاث "جافيكل"، من أن "بكين تسيطر على سلاسل إنتاج عديدة تشمل البطاريات والرقائق والمغناطيسات عالية القوة، ما يمنحها تفوقا استراتيجيا على واشنطن لم تعِ بعد أبعاده الكاملة".
وبينما أقرت وزارة التجارة الصينية مؤخرا بمنح تراخيص محدودة لبعض الشركات الأوروبية "لتجنب أزمة كبيرة"، أفادت غرفة التجارة الأوروبية في بكين أن التراخيص تظل بطيئة وغير شفافة، ما أجبر بعض الدول مثل كوريا الجنوبية واليابان على إرسال وفود تفاوض طارئة إلى بكين، وفق ما أكده دبلوماسي غربي لـ"فاينانشال تايمز".
وبينما توظف الصين تكتيك "فرّق تسد" كما وصفه أحد الدبلوماسيين الغربيين في بكين، تسود حالة من الذعر في قطاعات صناعية حيوية، دفعت أكثر من 75% من الشركات الأميركية المتضررة من القيود إلى التحذير من أنها تملك مخزونا لا يكفي أكثر من ثلاثة أشهر، وفقا لمسح أجرته غرفة التجارة الأميركية في الصين. وفي ظل هذا المشهد، تتزايد الدعوات الغربية لإنشاء احتياطيات استراتيجية من المعادن النادرة، وتمويل بدائل تنموية في أفريقيا وأميركا اللاتينية، والحد من التبعية للصين. لكن كما يشير توم نونليست من Trivium، فإن "بناء مناجم ومصافٍ جديدة ليس أمرا يتم بين عشية وضحاها"، مؤكدا أن الصين ستحتفظ لفترة قادمة بزمام المبادرة في هذه الحرب الصامتة.

Related News


