
تبرز تباينات اقتصادية واضحة بين شمال قطاع غزة وجنوبه، خصوصاً في أسعار السلع الأساسية مثل الخضروات والطحين (الدقيق)، حيث يلاحظ انخفاض الأسعار في مناطق جنوب القطاع مقارنة بالشمال، بفارق يتراوح بين 15 إلى 20 شيكلاً (الدولار 3.52 شواكل) للسلعة الواحدة.
هذا الفرق في الأسعار لم يعد مجرد ظاهرة اقتصادية، بل تحول إلى مؤشر واضح على خلل كبير في توزيع الموارد وتفاوت فرص البقاء بين سكان الشمال والجنوب، وهو ما بات جلياً ضمن مخطط إسرائيلي يستهدف مناطق شمال غزة في هذه المرحلة من الحرب.
ويرجع هذا التفاوت بشكل أساسي إلى سماح الاحتلال الإسرائيلي بإدخال عدد محدود من شاحنات المساعدات والسلع إلى مناطق الجنوب فقط، ما خلق وفرة نسبية في العرض هناك، في وقت يعاني فيه الشمال من حصار مزدوج، عسكري وإنساني.
هذا الواقع دفع العديد من التجار وكذلك المواطنين إلى التوجه جنوبا لتأمين البضائع، ما ساهم أيضاً في استنزاف المعروض المتاح محلياً في الجنوب، ورفع الضغط على أسواقه.
واضطر الفلسطيني أحمد عليان، النازح من مخيم جباليا شمالي القطاع إلى وسط مدينة غزة، إلى التوجه نحو سوق النصيرات وسط القطاع لشراء الطحين لعائلته، في خطوة محفوفة بالمخاطر، لكنها ضرورية لتقليل كلفة المعيشة في ظل ظروف الحرب والحصار.
وقال عليان لـ"العربي الجديد": "كيلو الطحين في مدينة غزة يباع بـ 75 شيكلاً، في حين سعره بمخيم النصيرات 55 شيكلاً، بفارق 20 شيكلاً على الكيلو الواحد، ذهبت لأشتري ثمانية كيلوغرامات من الطحين لعائلتي، وهو ما مكنني من توفير 160 شيكلاً".
وأضاف: "لكن المشكلة كانت في كلفة المواصلات المرتفعة والتي بلغت قرابة 50 شيكلاً، بجانب المخاطر الكبيرة أثناء اجتيازي لطريق الرشيد البحري، الذي كثيراً ما يتعرض للقصف وإطلاق النار من جيش الاحتلال".
وتعكس هذه القصة جانباً من المعاناة اليومية التي يعيشها أهالي القطاع في ظل العدوان المستمر وغياب الأمن الغذائي وارتفاع أسعار السلع الأساسية، ما يدفع المواطنين لاتخاذ قرارات محفوفة بالمخاطر من أجل البقاء.
ويضطر تاجر الخضروات في سوق الشيخ رضوان الشعبي بمدينة غزة، علي الغندور، للذهاب يومياً إلى مدينة دير البلح في وسط القطاع، وجلب ما يتوفر من خضروات عبر طريق الرشيد الساحلي، في وقت لم تعد فيه أراضي الشمال تنتج أي نوع من المحاصيل الزراعية بعد أن دمرت إسرائيل السلة الغذائية بالكامل.
وقال الغندور لـ"العربي الجديد": "نضطر لقطع مسافات طويلة في ظل ارتفاع أسعار المواصلات، لنشتري الخضروات وننقلها إلى مدينة غزة، ولا بديل لدينا في ظل انعدام المحاصيل الزراعية في شمال غزة".
وأوضح أن تكاليف نقل البضائع عبر "التوكتوك" (عربة بثلاث عجلات) تقارب 400 شيكل، ما يؤدي إلى ارتفاع إضافي في الأسعار التي تشهد أصلاً زيادات غير مسبوقة بسبب شح الكميات. وأضاف: "هذا يحدث بجانب المخاطرة التي نتعرض لها أثناء نقل البضائع عبر شارع الرشيد".
وتتزايد معاناة السكان في شمال غزة يوماً بعد آخر، إذ لا تتوقف الأزمة عند ارتفاع الأسعار، بل تتفاقم نتيجة لانهيار القدرة الشرائية بسبب تفشي الفقر والبطالة. وتشير التقديرات إلى أن نحو 95% من الغزيين يعيشون تحت خط الفقر، فيما تجاوزت معدلات البطالة 83%.
وتجدر الإشارة إلى أنه بعد إغلاق المعبر بشكل كامل لأكثر من 90 يوماً، تسمح سلطات الاحتلال منذ منتصف مايو/أيار الماضي بإدخال ما يقارب 5% فقط من عدد الشاحنات التي كانت تدخل خلال فترة التهدئة، والتي كانت تبلغ نحو 600 شاحنة يومياً، في حين لا تسمح حالياً إلا بإدخال أقل من 30 شاحنة يومياً، تتعرض غالبيتها للسرقة أو الاستيلاء.
تفاوت وظروف قاسية
وقال المختص في الشأن الاقتصادي محمد بربخ إن الفروقات الواضحة في أسعار السلع الأساسية بين جنوب قطاع غزة وشماله تعكس خللاً كبيراً في توزيع الموارد وظروفاً اقتصادية قاسية يعيشها سكان الشمال في ظل استمرار الحرب، رغم أن الوضع في جنوب القطاع لا يبدو أفضل بكثير، في ظل الارتفاع الكبير في الأسعار.
وقال بربخ لـ"العربي الجديد": "يشهد جنوبي غزة انخفاضاً نسبياً في أسعار الخضروات والطحين وبعض السلع الأساسية بفارق ملحوظ عن الشمال، ويعود ذلك إلى جملة من العوامل، أهمها سماح الاحتلال بإدخال عدد محدود من شاحنات المساعدات إلى الجنوب فقط، ضمن ما يعتقد أنه جزء من سياسة تهجير ممنهجة لسكان الشمال".
وأوضح أن ضعف الحركة التجارية في شمال غزة بسبب الحصار والتدمير الواسع للبنية التحتية، قلص المعروض ورفع الأسعار بشكل غير مسبوق، في وقت يشهد فيه الجنوب نشاطاً تجارياً أفضل نسبياً، حيث يتوجه العديد من التجار للحصول على البضائع من هناك بأسعار أقل (رغم ارتفاعها)، ثم يُعيدون بيعها في الشمال لتحقيق أرباح.
وأشار بربخ إلى أن هذا الواقع الاقتصادي يزداد سوءاً في ظل الارتفاع الكبير في تكاليف المعيشة، حيث تضاعفت أسعار المواصلات بنسبة 500%، فيما تجاوزت نسبة ارتفاع أسعار الوقود 1000%، مقارنة بما قبل الحرب، مما زاد من الأعباء على المواطنين.
وأضاف: "في الوقت الذي يحاول فيه بعض التجار الاستفادة من هذه الفروقات السعرية، يعاني المستهلكون في شمال غزة من واقع مرير، إذ انهارت القدرة الشرائية بشكل شبه تام، في ظل اعتماد نحو 95% من السكان على المساعدات الإنسانية كمصدر رئيسي للبقاء على قيد الحياة".

Related News

