نزوح عمالة مصر... هروب إلى الخليج يُفرغ السوق من المهارات
Arab
3 hours ago
share

في ورش صغيرة ومصانع كبرى، ومن المناطق الصناعية المصرية من شمالها إلى أقصى الجنوب، تتردد شكوى واحدة على ألسنة أرباب العمل والمستثمرين: "لا نجد من يُتقن المهنة". فعلى مدار سنوات، تسربت أعداد كبيرة من العمال المهرة من السوق المصرية، إما إلى دول الخليج أو إلى مهن هامشية أسرع ربحاً وأقل التزاماً، كقيادة "التوك توك" أو العمل اليومي العشوائي.

ويحذّر خبراء من أن هذا النزيف البشري يُفرغ السوق من المهارات الأساسية التي لا غنى عنها في أي نشاط إنتاجي، ويقوّض أي أمل في إقلاع صناعي حقيقي، حتى لو توفرت الاستثمارات والمرافق. فالمصانع في النهاية لا تعمل بماكينات فقط، بل بعمالة مدرّبة أصبحت عملة نادرة.

وتصطدم أحلام توطين الصناعة وزيادة مساهمتها في الناتج المحلي، بعقبة لا تقل خطورة عن نقص التمويل أو تعقيد الإجراءات البيروقراطية، وهي الندرة الحادة في العمالة الفنية الماهرة. وسط هذا المشهد، يحذّر اقتصاديون من أنّ العجز المتزايد في العمالة الحرفية يهدد بجعل البيئة الاستثمارية طاردة، ويقوّض أي إمكانية لزيادة الصادرات أو الاندماج في سلاسل القيمة العالمية، ما لم تتغير السياسات المتعلقة بالتعليم الفني والتدريب المهني جذرياً.

في هذا السياق، يقول رئيس الغرفة التجارية في محافظة القليوبية شمال القاهرة، محمد عطية الفيومي، إن نقص العمالة الماهرة بات أحد أهم معوقات الاستثمار في مصر، مشداً على أن العديد من الصناعيين يواجهون صعوبات متزايدة في تشغيل خطوط الإنتاج بكفاءة، لأن السوق فقدت جزءاً كبيراً من عمالها الفنيين بسبب غياب الحوافز وعدم وجود مظلة تنظيمية حقيقية ترعى هذه الفئات، مضيفاً في تصريحات صحافية أخيراً: "لا بدّ أن تكون السياسة الاقتصادية قادرة على خلق فرص عمل لائقة، وتحفيز دور القطاع الخاص في توليد الوظائف، لكن ذلك لن يتحقق في ظل غياب العنصر البشري المؤهل".

وفي أحد المصانع الصغيرة للمنتجات البلاستيكية في مدينة برج العرب شمالي مصر، يشرح المدير التنفيذي، محمد فوزي، لـ"العربي الجديد" كيف يضطر للاستغناء عن طلبيات تصديرية لعدم توافر فنيين مدربين. يقول فوزي: "نعلن عن وظائف منذ أشهر من دون استجابة، ومن يأتينا غالباً لا يملك الحد الأدنى من الكفاءة". ويضيف: "الحرفي الجيد إمّا سافر إلى الخليج أو اتجه لأعمال أخرى خارج المصانع".

وتقدمت النائبة إيفلين متى، عضوة لجنة الصناعة في مجلس النواب بطلب إحاطة لجهاز التنظيم والإدارة ووزارة المالية ووزارة الصناعة ولجنة الصناعة في مجلس النواب بشأن نقص العمالة والمهنيين بجميع المصالح المتعلقة بالصناعة، خاصة في الهيئات الرقابية على المنتج المصنّع والكفاية الإنتاجية وضمان الجودة ومعاهد التبين وخلافه من مصالح تخدم وزارة الصناعة.

وأشارت متى في بيان لها أخيراً، إلى أن المصالح المتعلقة بالصناعة تعتبر بمثابة الأذرع التي تضمن تعليما جيدا للصانع والرقابة على المنتج وجودته واعتماده حتى يكون منتجا منافسا دولياً وعالمياً. وأكدت أنها تقدمت بطلب الإحاطة لجهاز التنظيم والإدارة، باعتباره الجهاز الذي من خلاله يتم تعيين عمالة بكل الوزارات والهيئات والمديريات والمصالح التي يوجد فيها نقص في العمالة والأمن والخدمات المعاونة.

وأشار تقرير صادر عن مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار التابع لمجلس الوزراء إلى أن قرابة مليوني شخص فقط يعملون في قطاع الحرف اليدوية في مصر حتى يناير/كانون الثاني 2024، وذلك على الرغم من وصول إجمالي قوة العمل في مصر إلى 32.041 مليون شخص، وفقًا لبيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء لعام 2024.

ويقول يوسف الجعراني، عضو الغرفة التجارية في الإسكندرية شمال مصر لـ"العربي الجديد"، إن من أخطر ما يواجه سوق العمل في الدولة حالياً هو الانصراف المتزايد من قبل الشباب عن المهن الإنتاجية إلى أنشطة غير رسمية، مثل قيادة "التوك توك" أو جمع القمامة وبيع مخلفاتها، بسبب كونها أسرع في تحقيق دخل يومي، ولا تتطلب التزاماً وظيفياً أو تدريباً أو مهارات فنية.

ويعزو الجعراني هذا التراجع إلى "غياب أي إطار تنظيمي أو حوافز مادية تحفّز الشباب على البقاء في المهن الحرفية". ويقول: "الشاب الذي يتعلم المهن الحرفية مثل الطباعة أو الخراطة أو اللحام أو النجارة لا يجد وظيفة تضمن له الأمان الوظيفي أو التأمين الصحي أو حتى الحد الأدنى من التقدير المجتمعي، ولذلك يهرب من هذه المهن".

ويؤكد أن أي خطة لتوطين الصناعة ستفشل إذا لم تُعالج فجوة العمالة الماهرة، مطالبًا بإطلاق مشروع وطني لتدريب مليون فني خلال خمس سنوات، بالشراكة بين الحكومة والقطاع الخاص. ويضيف: "هذه ليست رفاهية، بل قضية أمن اقتصادي".

ويشير الخبير الاقتصادي محمد محرم، نائب رئيس جمعية رجال الأعمال في الإسكندرية، إلى وجود فجوة في عدم ملاءمة مخرجات التعليم مع متطلبات سوق العمل، بسبب اهتمام المؤسسات التعليمية بالأمور النظرية على حساب الأمور الفنية والمهارات اللازمة وعدم القدرة على ملاحقة التطورات المتسارعة في مختلف المهن، مما يؤدي إلى تخرّج طلاب يفتقرون إلى المهارات العملية وبالتالي زيادة معدلات البطالة بين الخريجين.

ويوضح أن هذه الظاهرة لا تُضعف فقط من حجم المعروض من العمالة الماهرة، بل تفرغ السوق تمامًا من الكوادر المدربة اللازمة لتشغيل خطوط الإنتاج في القطاعات الصناعية والحرفية، ما يؤدي إلى اعتماد الشركات على عمالة غير مؤهلة أو إحجامها عن التوسع من الأساس.

ويضيف محرم، أن الاقتصاد غير الرسمي بات يستقطب الملايين من الشباب سنوياً، في غياب حوافز حقيقية للالتحاق بالتعليم الفني أو العمل النظامي، مشيراً إلى أن هذا النزوح الجماعي نحو الوظائف السهلة "يُفقر" السوق من الأساس الصناعي والتنفيذي الذي يُفترض أن يُبنى عليه أي مشروع تنموي مستدام.

بدورها، توضح نجلاء عبد المنعم، الباحثة الاجتماعية، أن الأزمة مرتبطة بالسياسات التعليمية والتدريبية التي تراجعت فيها مصر بشدة مقارنة بدول أخرى في المنطقة مثل المغرب وتونس، لافتة إلى أن أغلب خريجي المدارس الفنية لا يملكون الحد الأدنى من التأهيل، بسبب ضعف المناهج وغياب التدريب العملي، ما يخلق فجوة هائلة بين متطلبات السوق ومخرجات التعليم.

وتؤكد أن حرفا ومهنا كثيرة تعاني منذ عدة سنوات من النقص في العمالة نتيجة عزوف الشباب عن الالتحاق بها بسبب الوجاهة الاجتماعية أو النظرة السلبية لتلك المهن، بل إن نسبة كبيرة من الأسر المصرية تفضل لأبنائها التعليم الجامعي أو الكليات النظرية رغم معرفتهم بحجم البطالة في سوق العمل، خاصة في تلك التخصصات التي وصلت لمستويات غير مسبوقة

وتحذّر عبد المنعم من استمرار مثل هذه الأزمات سوف يفتح المجال أمام العمالة الوافدة من الخارج لسد الفجوة المتمثلة في نقص العمالة الماهرة، مشددة على أن التحول الصناعي لا يقوم فقط على توفير الأرض والمرافق، بل على بناء الإنسان المنتج، وهو ما نغفل عنه. وطالبت بضرورة تقديم حلول لمشكلة نقص العمالة والمهنيين والبحث عن وسائل لتغيير الثقافة المجتمعية نحو المهن الحرفية وتحفيز الشباب لدخول سوق العمل بجميع المصالح المتعلقة بالصناعة.

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows