"اليوغسلافيون".. الحنين إلى ما لم يعد موجوداً
Arab
3 hours ago
share

تدور أحداث مسرحية "اليوغسلافيون"، التي تُعرض حالياً على خشبة مسرح دي لا أباديّا في مدريد، في حانة قديمة لم تعد سوى شبح لما كانت عليه. صاحبها، مارتين، يتلصص على أحاديث زبائنه، متشبثاً ببقايا الزمن، بينما تنسحب زوجته أنخيلا من العالم، صامتة، غارقة في عزلة غير مفسَّرة. يظهر جيراردو، الزبون الثرثار ذو النوايا الحسنة، كمحاولة بائسة لمدّ الجسور، لكنه هو الآخر غريب حتى عن ابنته كريس، التي تُجسّد جيلاً جديداً لا يفهم القديم ولا يُفهمه.

هؤلاء جميعاً، في نظر كاتب المسرحية ومخرجها، الإسباني خوان مايورغا، ليسوا سوى أطياف: أشخاص عالقون بين ماضٍ لم يُغلق، وحاضر غير قادر على منحهم ملاذاً. الزوجان، الحانة، المدينة، وحتى الحوارات، تنتمي إلى واقع مائع يتشظّى في مواجهة الفراغ.

يواصل الكاتب والمخرج الإسباني من خلال هذا العمل استكشاف الموضوعات والأسئلة الكبرى: الهوية، الصمت، الكلمات التي لم تُقل، الحب على حافة الزوال، والانتماء في عالم مفكك. ليست المسرحية مجرد دراما عن اختلال عائلي أو صراع داخلي، بل تأمل شعري ملبّد بالرموز والأشباح، يُصاغ على هيئة لغز كبير تتخلله أصوات وخرائط وذكريات مبهمة.

عنوان العمل نفسه ينطوي على مفارقة: فالـ"يوغسلافيون" لم يعودوا موجودين، والدولة التي حملت هذا الاسم تلاشت، لكن الكلمة ما زالت تثير صدى عاطفياً عميقاً لدى من عاشوا زمن وجودها. هنا، لا يمثّل "اليوغسلافيون" شعباً بقدر ما يصبحون رمزاً لحالة شعورية مُربكة، مزيج من الفقد والتيه والغربة الذاتية.

أشخاص عالقون بين ماضٍ لم يُغلق، وحاضر غير قادر على منحهم ملاذاً

يمنح مايورغا النساء في هذه المسرحية قوة درامية صامتة. في مقابل الكلمات الجوفاء للرجال، تحمل النساء - في مقدمتهن أنخيلا - الأعباء غير المنطوقة، التصدعات الداخلية، والقدرة الغامضة على التحوّل. تكشف المسرحية أن رحلة "شفاء أنخيلا" هي في الحقيقة رحلة لإعادة اكتشاف ذواتهم المهشّمة جميعاً، لا سيما الرجال الذين يتخبطون في هشاشة أدوارهم القديمة.

يمزج مايورغا بين الواقعي والرمزي، ويستحضر شخصيات من أعماله السابقة ليشكّل عالماً مسرحياً ذا ذاكرة ذاتية. يعود ليطرح أسئلته المتكررة حول قوة اللغة، لا كلغة خطابية بل كوسيلة تشكّل الواقع وتخفيه. كما تعكس المسرحية اهتمامه بالمكان كحامل للهوية، لا من خلال مواقع محددة، بل عبر الشعور بالانتماء أو غيابه.

رغم الطابع الفلسفي العميق للنص، إلا أن كثرة الإشارات والألغاز والغياب المتعمد للمباشرة تجعل من متابعة الحبكة تحدياً للمشاهد. ورغم ثراء المسرحية سردياً وبصرياً، إلا أن نهايتها تفتقر إلى الحسم الذي يتناسب مع جمالها وتأملها العميق. تظل خيوط كثيرة عالقة، كأن النهاية نفسها أصبحت جزءاً من الفقد الذي تتحدث عنه المسرحية. لكن هذه الثغرة لا تقلّل من قيمة النص، بل تؤكد هشاشة الحياة التي يصوّرها: لا شيء يُغلق تماماً، ولا جروح تُشفى إلى النهاية.

"اليوغسلافيون" ليست مسرحية تجيب، بل تسأل، وتثير إحساساً بافتقاد ما لا يمكن تسميته. كأنها خريطة معلّقة تبحث عن وطن تم محوه، وعن ذات لم تعد تجد مكانها في العالم. وتبقى التجربة، رغم ثقلها الرمزي، علامة على قدرة المسرح في أن يُترجم الاضطرابات العاطفية والسياسية بلغة الإبهام الفني.

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows