
تشهد واشنطن فصول مسلسل غريب كانت أحداثه خارج أي تصور قبل أيام، حيث انهارت العلاقة بين الرئيس دونالد ترامب والملياردير إيلون ماسك الذي كان بمثابة رئيس حكومة في إدارته. الانقلاب المفاجئ بينهما من حالة الثقة والود إلى حالة النفور والكراهية بعد ساعات من وداع ماسك وتكريمه في البيت الأبيض بمناسبة انتهاء مهمته، تعدّدت قراءات أسبابه؛ منها أن التعاون بين "أغنى شخص وأقوى شخص" في العالم لا يستقيم. "الأنا" الضخمة لا تسمح باستمرار وتثمير مثل هذا اللقاء.
إيلون ماسك الذي فوّضه الرئيس القيام بعملية إصلاح إداري "لوقف الهدر وخفض النفقات" في الإدارات الفيدرالية، وعد بتحقيق في النفقات بمقدار تريليوني دولار، لكنه انتهى إلى توفير 160 مليار دولار فقط. فشل، وبالنهاية، كان لا بد من طي الصفحة. ربما زعم أن تراجع الرئيس عن حماسه للموضوع بعد هبوط رصيده، ساهم في الفشل. وكان قد أبدى، في وقت مبكر، اعتراضه المبطّن على الحرب التجارية التي أعلنها ترامب، ليس فقط من باب أنها مؤذية للاقتصاد الأميركي بل أيضاً لمصالحه، إذ تربطه علاقات تجارية واسعة مع الصين. ثم جاءت الأرقام لتشكل صاعق التفجير، إذ بعد أربعة أشهر من الضجة والرفض والاعتراضات القضائية على مهمته، هبطت القيمة المالية لأصول شركاته بحدود 152 مليار دولار. خاصة شركة سيارته الكهربائية الشهيرة "تسلا" التي خسرت 14% من قيمة تداولاتها في سوق الأسهم.
يذكر أن ماسك كان قد ساهم في دعم حملة ترامب الانتخابية بـ270 مليون دولار، وتراكم خسائره من دعمه لترامب ثم العمل في إدارته، فجّر علاقته مع الرئيس في اليوم التالي لمغادرة البيت الأبيض. وتعمّد أن تكون المفارقة بلا عودة بحيث بدأها بفتح النار على مشروع الموازنة الذي تتوقف عليه أجندة الرئيس الداخلية والذي يواجه صعوبات في مجلس الشيوخ بعد أن مرّره مجلس النواب بشق الأنفس وبفارق صوت واحد فقط، لم يكن ليتوفر لولا تدخل الرئيس وحضوره شخصياً إلى الكونغرس. دعوة ماسك الصريحة وتحريضه المفتوح لإسقاط المشروع في مجلس الشيوخ، كانت بمثابة قطع شعرة معاوية مع الرئيس الذي لوّح باحتمال إلغاء عقود الإدارة مع شركات ماسك المتعددة (ذكاء اصطناعي وبرامج فضائية..). ثم ذهب ترامب إلى حد التلويح بإعادة النظر في وضع هذا الأخير كمقيم جاء إلى أميركا من جنوب أفريقيا. وتطورت القطيعة إلى حدّ أن زعم ماسك بأن "اسم الرئيس وارد في ملفات قضائية بدعاوى أخلاقية". انكسار العلاقة بهذا الشكل قد يتبعه المزيد من مسلسل نشر الغسيل.
وبصرف النظر عن خلفيات وملابسات حرب ترامب – ماسك المعروفة منها وغير المعروفة، فهي ليست بنت ساعتها بقدر ما هي منتج لرئاسة كشفت تجربتها حتى الآن بأن معظم مقارباتها رغبة - رومانسية، الداخلية منها والخارجية. واختيار ماسك يجسد هذا العطب. فلا يقوى رجل أعمال بوزنه يدير إمبراطورية بذهنية الربح وخفض الكلفة، على إصلاح إدارة حكومية غايتها تحسين النوعية والإنتاجية من غير أن تكون معنية بالربح بمفهومه التجاري. وفاقم التعثر أنه دخل في العملية بصورة عشوائية ومن دون فريق معاون من ذوي الاختصاص.
هذا النهج التزمه الرئيس ترامب في تعاطيه مع موضوع الرسوم الجمركية على الواردات رغم تحذيرات الخبراء وأهل الاختصاص. والآن، يحاول الاستدراك من غير أن يبدو وكأنه تراجع، ولو أنه فرض قبل يومين زيادة 50% على الحديد والألمنيوم المستورد، لكنه سارع أمس وأجرى اتصالاً مع الرئيس الصيني لترطيب الأجواء وبما يهيئ الشروط لتسوية بات يدرك أنه لا غنى عنها، وفق ما تشير إليه الأرقام، وذلك بعد أن خفض الرسوم على البضائع الصينية من 145% إلى 30%، ولو مؤقتاً.
واعتمد ترامب ذلك النهج أيضاً في التعامل مع الأزمات الخارجية؛ في أوكرانيا تبخرت الوعود بحل في غضون أيام، والرغبة اصطدمت بالواقع. المخرج كان بتصوير الحرب بأنها "صارت مثل خناقات الأولاد الذين ينبغي تركهم حتى يشعروا بالتعب" فتنتهي المشكلة، كما صوّرها الرئيس ترامب أمس الخميس، أثناء استقباله المستشار الألماني في البيت الأبيض. وهكذا كان في غزة ومشاريع وقف النار فيها. بالنهاية أدى الاستسهال في المقاربة إلى التورط بوعود تنتهي بالتراجع عنها بصورة أو بأخرى؛ من ماسك إلى حروب التجارة وأوكرانيا وغزة.

Related News


