
في "صراط"، رابع روائي له، يُعمِّق الإسباني أوليفر لاسي تجربتيه الوجودية والصوفية بفيلمٍ ملحمي، يتقاطع والأوديسا. لكنّ الرحلة الأوديسية هنا صحراوية الطابع، ليس لأنّ لاسي يستكشف الصحراء ويسبر أغوارها للمرة الأولى. فهو من المحنّكين في دروبها ومجاهلها، مُقدّماً إياها في مشاهد خلاّبة في "ميموزا" (2016): رحلة روحية وصوفية، وعبثية بعض الشيء، تحتضنها صحراء شتوية قارسة البرودة، وثلوج غامرة، وشخصيات من قلبها وتراثها، وعناوين بلغة عربية فصحى، ومشهد ختامي ينتهي بتكبيرات الحج.
في جديده، يقتصر استخدام اللغة العربية على العنوان. تتردّد كلمات عامية مغربية، كتحية سريعة، ونقاش عابر، وتلاوة قرآنية في قناة تلفزيونية دينية. لكنّ الفيلم لم يُقسّم إلى فصول بعناوين عربية كما في "ميموزا"، ولا تنطق الشخصيات بالعامية المغربية، فالغلبة للّغة الإسبانية.
اكتفى لاسي بكون العنوان يُلخّص الدراما، ويحيل إلى مكنونها الفكري. إذْ جرت الإحالة إلى الصراط في أكثر من مشهد وحلم، تجلّى أروعها في العبور المستقيم والسريع والسحري للشخصية الأساسية فوق ألغامٍ، وصولاً إلى الطرف الآخر الآمن من دون أنْ تُمَسّ، ما استدعى تساؤلات من رفاق لها متعجّبين وخائفين من تقفّي أثرها، أو صراطها المستقيم.
لا يختلف "صراط" كلّياً عن "ميموزا"، طرحاً ومعالجة، لكنّه يتوفّر على رؤية فنية أنضج وأعمق وأكثر إقناعاً، حتّى من "ستأتي النيران" (2019). هناك إتقان هائل للصورة، واستغلال جمالي خلاّب للمناظر الصحراوية البكر، خاصة مشاهد الانتقال من الصحراء المغربية إلى تلك الموريتانية. الأحداث في "صراط"، على نقيض "ميموزا"، تحصل في الصيف، في خشونة الصحراء القاحلة اللاهبة، وقسوتها ووعورتها، وهبوب العواصف الترابية، والشمس الحامية، والقيظ المهلك.
بإعادة توظيفه الرحلة الملحمية في الصحراء، لا يُكرّر لاسي نفسه أبداً، إذْ يُلاحَظ مدى تطوّره الفني ونضجه الفكري مقارنة بـ"ميموزا": الصحراء ليست خلفية للأحداث، إذْ تجاسر بجعلها المحرّك الدرامي، والدافع المتحكم في حركة الشخصيات وتطوّرها وردود أفعالها. يُقلِّل من استخدام الفانتازيا والأحلام، في مقابل توظيف ثقيل الوزن فنياً للموسيقى التصويرية، خاصة موسيقى التكنو المزلزلة لكيان من يسمعها. رغم أنّها ليست للسماع، كما تقول إحدى الشخصيات، بل للرقص. الأدوات الفنية الجريئة والغريبة، والتوظيف الرائع والبارع لشخصيات مكتوبة بمهارة، وحبكة بعيدة عن المطروق، كأغلب أفلامه المفارقة للمعهود والسائد، روحياً وفكرياً وبصرياً، هذا كلّه جعل "صراط" متميّزاً ومتفرّداً، ولا يشبه غيره تقريباً، ويكاد يتقاطع مع أفلامه السابقة، روحياً وفنياً وجمالياً.
بعيداً عن أبعاده الروحية والفكرية والفلسفية، وما يزخر به من جماليات فنية ومتعة بصرية وأداء أخّاذ، يمكن التأكيد على أنّ لـ"صراط" قَدراً كبيراً من الفنية والصدق. في الصحراء، فارّون من جحيم الحياة ومشاكلها إلى رحابة الأفق وصخب الموسيقى الجنونية، وهذا يُعَدّ بامتياز من أهم الأفلام السياسية في هذا العام. ليس لأنّ شخصية سألت أخرى عن رأيها عن شكل نهاية العالم، والأخيرة أجابتها بتردّد أنّ تلك النهاية حصلت منذ فترة طويلة؛ وليس لأنّ الراديو يتناول مشاكل سياسية واضطرابات ومفاوضات؛ ولا لأنّ الجيش حضر فجأة إلى قلب الصحراء لفضّ التجمّع الغنائي الراقص، نظراً إلى خطورة الأوضاع بالمنطقة.
هذا كلّه ليس مهماً كثيراً، ففي النهاية، وباستعراض مصائر ما تبقى من الشخصيات، يؤكّد لاسي أنّ هؤلاء الصعاليك، غير المبالين بالعالم ومشاكله، الذين تركوا الحياة برمّتها وعانقوا الصحراء، والذين لا يؤذون ولا ينشغلون بأيّ شيءٍ خلا الموسيقى والرقص والتدخين والمخدّرات وغيرها، هؤلاء الصعاليك، أو الـ"هيبز" المُسالمين، لن ينجوا بحيواتهم أيضاً. إذْ حتى في قلب الصحراء القاحلة، وفي ظلّ انتفاء الحرب أو وجود عدو واضح واشتباك صريح، يسقطون ضحايا القتل والدمار والهلاك.
يبدأ "صراط" ـ الفائز بجائزة التحكيم، مناصفة مع "صوت السقوط" للألمانية ماشا شيلينسكي، في الدورة الـ78 (13 ـ 24 مايو/أيار 2025) لمهرجان "كانّ" ـ بلقطات استعراض، طويلة وسريعة ورائعة، لمكبّرات صوت ضخمة تُنصب وسط الصحراء المغربية، استعداداً لحفلة صاخبة. بين حشود الحفلات، من مهووسين ومأخوذين وسكارى و"هيبز" وصعاليك، يقف رجل في منتصف العمر يُدعى لويس (سيرجي لوبيز)، مع ابنه الصغير إستيبان (برونو نونيز) وكلبتهما اللطيفة بيبا، باحثاً عن ابنته التي لم يرها منذ خمسة أشهر، بعد ذهابها إلى حفلةٍ مماثلة.
لتمسّكه بخيط رفيع كما الصراط، يُشير إلى احتمال وجود ابنته في حفلة أخرى سيذهب إليها هذا الحشد، يغامر لويس وإستيبان، بسيارتهما غير المؤهّلة، للانضمام إلى الجميع، والذهاب إلى الحفلة الصاخبة في عمق الصحراء. رحلة قاسية وشاقّة جداً، محفوفة بمخاطر مُهلكة. لكن لويس يتعرّف فيها على أشياء كثيرة، ويصبح (ولو لفترة) صديقاً لعائلة من الرحّالة الصعاليك.
خمسة مجانين رائعين (ممثّلون هواة بأسمائهم الحقيقية: ستيفانيا جادا وجوشوا هندرسون وجيد أوكيد وريتشارد بيلامي وتونين جانييه)، يستمتعون بحياة الكفاف في شاحناتهم المتهالكة، وانطلاقهم العدمي، وموسيقاهم الغريبة الصاخبة، وما يتعاطونه من مواد غريبة. يتقبّل شخصياتهم ونزقهم والإعاقات الجسدية لبعضهم، ليخرج من وحدته وحزنه، وينتمي إليهم بوصفهم عائلة جديدة ينسجم مع أفرادها، وإن تقف الأمور لهم بالمرصاد، في النهاية.
لا يرحم لاسي أبطاله. يُسقطهم الواحد تلو الآخر بدم بارد وجسارة درامية واقتدار فني، لا يجسر عليه إلاّ مخرجاً كبيراً مثله.

Related News

