يوم عرفة والقيم الإنسانية
Party
1 day ago
share

الرشادبرس_ مقالات

مقال – موسى المقطري يجتمع الحجاج على صعيد عرفات لإنجاز ركن الوقوف بقلوبٍ واجفة وأكفٍ مرفوعة، تسبقهم دموع الخشوع وترتجف أفئدتهم شوقاً إلى المغفرة، وترتفع الأرواح إلى مقامات العفو والغفران والقبول. وفي اجتماعهم في هذا المشعر، وبتلك الكيفية، تتجسد معاني عميقة مرتبطة بجوهر العبادة ولبّها. ومن يعتقد أن ما يحدث هو محض شعائر محصورة في إطار العبادة الفردية فهو لا يُعطي الحدث حقه ولا مستحقه.

يوم عرفة هو يوم تجسيد القيم الإنسانية بامتياز، ومناسبة تحمل في طياتها رسائل حضارية وأخلاقية تتجاوز الحدود إلى العالمية. ففيه يقف الملايين في صعيد عرفات بلباس واحد موحد، بلا زخرف ولا تمايز. فلا عمائم العلماء تُعرف، ولا تيجان الملوك تُميز، ولا أزياء الأغنياء تُلمح. الكل في رداء الإحرام الأبيض يعيدون تعريف ذواتهم على أساس ما هم عليه في الأصل: بشرٌ من تراب، عبيدٌ لرب واحد. تتجسد فيهم أعظم صور المساواة، لا مجرد شعار، بل واقعاً حيّاً يعيشه الناس من كل القارات واللغات والأعراق والأنساب. وكأن يوم عرفة يقول: “إن أردتم بناء عالمٍ عادلٍ فابدؤوا من هنا، حيث المساواة التي لا فرق فيها ولا تفرقة”.

الحرية قيمة إنسانية عظيمة تحضر يوم عرفة بشكل لامع مشرق. وهي ليست حرية سياسية بالمعنى الشائع المستهلك، بل حرية روحية داخلية يخلع فيها الإنسان عن نفسه أوزار الذنوب وأغلال العادات السيئة وأوهام التملك والسيطرة. ثم يتجرد من كل تبعية لغير الله، ومن كل قيد يصنعه الهوى، ويقول في أعماقه قبل لسانه: “لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك”. وهذا النداء هو إعلان تحرر من كل ما سوى الله، تحرر من الجشع والكراهية والتمييز وعبودية النفس والهوى. وفي كل ذلك استعادة لمعنى الحرية الحقيقية التي تحرر القلب والروح قبل أن تحرر الجسد.

وفي عرفات تتجلى العدالة في أبهى صورها حين تتنزل الرحمة السماوية بلا حساب، وتُوزع المغفرة بلا محاباة ولا تمييز. فمن وقف على عرفات مستغفراً صادق النية نال حظه من العتق والصفح، لا ينظر الله إلى شكله ولا تاريخه ولا ألقابه ولا حسبه ونسبه، بل إلى صدقه وعمق توبته وإقبال قلبه على خالقه. وهذه هي لب العدالة الإلهية، حيث يحصل الإنسان على الإنصاف في أجمل صوره. وإن كان مقصراً، يُعطى الفرصة للبدء من جديد، ويفتح له باب الرجاء لا باب اليأس. تلك عدالة يوم عرفة، عدالة فائقة لا تعرف التفرقة، بل تمنح كل طالبٍ للعفو فرصة عادلة للعودة إلى الطريق والتصالح مع ذاته وخالقه ومجتمعه.

يوم عرفة هو يوم التسامح، حيث لا يُطلب من الإنسان أن يتصالح مع خالقه فقط، بل أن يُعيد النظر في علاقته بالناس. فمن يطلب الصفح من خالقه، لا بد أن يكون مستعداً لأن يغفر للآخرين ويتجاوز الأحقاد والضغائن. ولأجل ذلك، تسري روح التسامح الجماعي بين الحجيج. وحين تتأمل سيرهم وسكونهم في عرفات، تلمح مشاعر الصفاء تتسلل إلى القلوب. وكأن الرحمة تسري من السماء إلى الأرض لتعيد ترتيب العلاقات على أساس الحب لا البغضاء، والتسامح والعفو لا الانتقام.

تلك بعض القيم الإنسانية التي ترسيها يوم عرفة لتبدو موقفاً عالمياً إنسانياً، لا محطة زمنية عابرة. ولتظهر حقيقتها ليس كشعيرة فقط، بل كيوم مشهود يُعيد تذكير البشرية بالقيم التي تجعل حياتها متوازنة، وتضعهم أمام مرآة المنظومة القيمية الكبرى التي لا تزول بتغيّر الأزمان ولا تتلاشى مع تبدل الحضارات. إنه يوم يحمل في مضمونه رسالة لكل إنسان مفادها: إن أردت إنسانية كاملة فعِش يوم عرفة كل يوم.

دمتم سالمين.

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows