الهوية المفقودة في مدينة العمى والعميان:
من المهم أن نربط العمى كاعتلال جسدي ونفسي يفقد بموجبه الإنسان القدرة على التمييز والتفريق بين العلامات والإشارات والملامح وهي الهوية أيضًا التي أرادها جوزيه ساراماغو لنصه (اللاهوية) ومدينته وأبطال حبكته فهم أشخاص لا ملامح لهم ولا يمكن ربطهم بالزمان والمكان هم فقط مجموعة من البشر تحركهم الدوافع والغرائز البشرية وتتحكم في سلوكياتهم الظروف وطبيعة أدوارهم الاجتماعية، وهي اختيارات أراد بها الروائي آفاقًا إنسانية واسعة لروايته وأفكارها وعدم حصرها في سياقات ثقافية محدودة أو جماعات عرقية أو وطنية، بل هي نص كوني عابر للزمان والمكان يخاطب الإنسان كونه إنسانًا عاقلاً حرًا وأخلاقيًا في مواجهة الجهل والدعاية وقمع السلطة ووحشيتها فالمشكلة الأخلاقية التي يعالجها ساراماغو أبدية خالدة خلود الإنسان على هذه الأرض، ففي مطلع الرواية تبدو المدينة غارقة في فوضى عارمة وحركة المرور في ازدحام كبير والسائقون في عجلة من أمرهم وفي هذه الحركية السريعة من وتيرة السرد يحدث عارض غريب هو أول عقد الرواية حيث يصاب رجل ما بالعمى ويبدأ بالصراخ "أنا أعمى" "أنا أعمى" واجتمع حوله المارة ليعرفوا ما الذي أصابه وما هو هذا العمى الذي يحل فجأة ليأخذ من المرء حبيبتيه، ما هو هذا العمى الذي يسجن صاحبه في بياض حليبي ليتحول إلى وباء يعصف بالمدينة "إنه مرض غريب عجيب لم أشهد مثله ولم أسمع به في تاريخ طب العيون" يقول الطبيب لزوجته التي ستلعب دورًا محوريًا في حبكة الرواية فهي الضمير المتبقي في عالم يبصرون دون بصيرة أو حكمة.
ليس العمى عند ساراماغو عجزًا جسديًا بل هو يقظة ضمير مفاجئة وانعطاف حاد على ما تؤمن به الجموع والحشود وتروج لها السلطة وهو بداية لرؤية أعمق وفهم حقيقي
العمى عند ساراماغو هو جسر العبور إلى الأنوار:
ليس العمى عند ساراماغو عجزًا جسديًا أو عائقًا دون التحليق فوق المحسوس والملموس بل هو يقظة ضمير مفاجئة وانعطاف حاد على ما تؤمن به الجموع والحشود وتروج لها السلطة وهو يتقاطع في هذا التوصيف مع الشاعر الأرجنتيني بورخيس الذي سخر من التصورات السطحية حول العمى كونه نهاية تجربة بصرية، بل هو بداية لرؤية أعمق وفهم حقيقي للأشياء والشخوص بعيدًا عن إغواء الصورة وشهوتها، ولهذا فإن الشخصيات الستة التي تبنى عليهم الرواية تعاملت معهم السلطة كخطر محدق بالمجتمع والدولة واختارت لهم مستشفى عقليًا لعزلهم فيه وهو المكان الذي يحمل رمزية مكثفة حول انهيار القيم الإنسانية والتحول إلى الوحشية حيث يغيب العقل ويبرز الجنون وهو ما يعكس تصاعد هاجس السلطة من وباء العمى الذي بدأ ينتشر كما تنتشر الأفكار الثورية والوعي السياسي والذي تعاملت مع مرضاه كما تتعامل مع المعارضين السياسيين والخصوم، تم التعامل مع الطبيب وزوجته وباقي المرضى بطريقة مذلة، بل تم تهديدهم بالقتل وهو ما حدث فعلاً لمن أراد أن يغادر المستشفى أو المعتقل ولم يستثنَ من هذه المعاملة حتى الطفل الصغير وهو ما يحيلنا إلى ممارسات الأنظمة الشمولية في قمع المعارضين وعزلهم وسلطات الاحتلال الصهيوني التي تعتقل في سجونها ما لا يقل عن 323 طفلاً وقتلت منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023 أكثر من 17 ألف طفل.
ثم تنتقل الرواية تصاعديًا لتتشكل عصابات من العميان يحاولون السيطرة على الطعام وتهديد الآخرين وابتزازهم وقتلهم إن لزم الأمر أمام انسحاب الجيش والسلطة وكأنهم أتموا مهمتهم بتدمير المجتمع وانتشار الفوضى وتصنيع جماعات خارجة عن القانون، وقد نجح جوزيه ساراماغو في تجسيد الواقع سرديًا من خلال وضع السلطة والأنظمة الفاشية في قفص الاتهام وتعريتها وكشف قدرتها على العبث بالنظام والقيم الأخلاقية وتأليب الناس بعضها ضد بعض عن طريق اختلاق الأزمات.
غزة كجزء غير مكتوب في رواية العمى لساراماغو:
في عالم يبصر مشاهد الحصار التي تفرضها سلطة الاحتلال الصهيوني على سكان غزة ويعاين الخراب الذي لحق بالإنسان والحيوان والأشجار والقتل اليومي ولا يحرك ساكنًا كأنه مصاب بالعمى الأخلاقي والإنساني وهنا تبرز جدلية الصراع بين الشر والخير كما جسدها ساراماغو في العمى بين عالم متداعٍ مصاب بالعمى الأسود وهو يتوهم الرؤية، وبين مدينة صغيرة استيقظت يوم السابع من تشرين الأول/ أكتوبر على وباء أبيض اسمه التحرر والانعتاق من نير الاستعمار ينتقل من بيت إلى بيت ومن ثائر إلى ثائر وهكذا تتجسد تفاصيل الرواية فيما يحدث في غزة حيث تمنع كل الأنظمة هذا الوباء الثوري الغزي من الانتشار في باقي البقاع الأخرى، كل الأنظمة سقط عنها القناع وظهرت عوراتها وزيف دعايتها حول الأخلاق والقيم والديمقراطية واحترام حقوق الإنسان والحق في التعبير كل هذا كشفته غزة عندما انتشر فيها وباء التحرر وأسقطت عن النظام العالمي ورقة التوت الأخيرة.
Related News



