
كثيراً ما يُتداول في سياق متابعة الأزمة السياسية الليبية وتفاصيلها للتعبير عن تعامل القائمين في السلطة مع جهود الحلول السياسية بـ"رفض المغادرة" من خلال عراقيلهم التي يزرعونها أمام تلك الجهود، خصوصاً الانتخابات التي يمكن أن تستبدلهم بغيرهم. وفي خضم خريطة القائمين في مراكز السلطة، يبرز خليفة حفتر كشخصية تقدّم مفاهيم جديدة في قواعد اللعبة السياسية، مفاهيم بعيدة عن منطق الشرعية أو الإجماع الشعبي.
منذ أن أمسك حفتر بزمام الوضع في شرق ليبيا وتمدد إلى الجنوب بقوة السلاح ولغة العنف، وهو يسعى إلى ترسيخ وجوده "رقماً صعباً" لا يُتجاوز، لا بقوة مشروع سياسي واضح، ولا بشعبية تُحسب له، وتالياً طوّر وضعه إلى مشروع أكثر تعقيداً من خلال تحويل مفهوم "رفض المغادرة" إلى فلسفة "بقاء" تتجاوز عمر الفرد لتمتد إلى جيل آخر، عبر توزيع الأدوار والمهام على أولاده، وكأنه يكتب فصلاً جديداً في سردية الحكم العائلي الذي لطالما سعت إليه الكثير من الأنظمة الديكتاتورية.
صحيح أن ظهور أبناء حفتر في المشهد العام ليس بجديد، لكن الطريقة التي وزع فيها خليفة حفتر الأدوار بين أبنائه، وكأنه يبني نظاماً موازياً قائماً على تعددية مصطنعة تخدم هدفاً واحداً، وهو ضمان بقاء العائلة في قلب السلطة، بغضّ النظر عن التحوّلات السياسية في المشهد. فبينما منح ابنه صدام قيادة القوات البرية، يتحرك بلقاسم في دائرة المال والإعمار، والصديق في ملف المصالحة الوطنية، وخالد قائداً للأجهزة الأمنية. هذه التوزيعة تشبه تقسيم إرث يضمن عدم تفتته، حين يصبح كل ابن مسؤولاً عن جانب في السلطة العائلية، من دون أن يتمكن أحدهم من التغوّل على الآخر.
اللافت أن حفتر، الذي تجاوز الثمانين عاماً، بدأ يتراجع تدريجياً عن الواجهة لصالح أبنائه الذين تحوّلوا إلى وكلاء فعليين لمشروعه. فزيارة صدام الأخيرة إلى واشنطن بصفته "مبعوثاً" عن والده، أضافت جديداً يحمل رسالة للمجتمع الدولي للمطالبة بالاعتراف بشرعيته، والإعلان الضمني بأن العائلة باتت تمتلك أدوات التأثير في المسار الليبي.
صحيح أيضاً أن مشروع حفتر لا يختلف عن محاولات توريث السلطة التي عرفتها أنظمة عربية سابقة، لكن الجديد كما يبدو هي محاولة حفتر الاستفادة من دروس أسلافه، فبدلاً من الاعتماد على ابنٍ واحد قد يفشل، يعتمد على شبكة التعددية. لكن ما لا يدركه حفتر أن هذه الشبكة أيضاً قد تفشل بسبب التنافس الخفي بين أولاده.
وبصرف النظر عن مستقبل هذا المشروع، فالسؤال الأبرز الآن: ما جدوى الحديث عن الحلول السياسية والانتخابات إذا كان حفتر ماضياً في مشروعه ولو كان الثمن إفراغ الانتخابات من مضمونها، وكيف يمكن الحديث عن انتقال ديمقراطي سلمي للسلطة، إذا كان حفتر يرسي سلوكاً قد ينتهجه أيضاً غيره من منافسيه، ويقدّم أساليب جديدة للبقاء؟

Related News
