
تكشف أحداث الساحل، التي شهدتها سورية في مارس/ آذار الماضي، حقيقةً بارزة، أن الشعب السوري يفوق سلطته الحالية قوةً ووعياً، ويمتلك فهماً نافذاً لتحدّيات المرحلة، فقد أثبتت انتفاضته العفوية قدرته على دعم سلطةٍ ضعيفة، والدفاع عن تحرير العباد من إرث الفساد والاستبداد، وصدّ بقايا نظامٍ دمّر البلاد عقوداً. هذه الإرادة الصلبة، التي صمدت 14 عاماً أمام نظام الأبد والإبادة المنهار، تؤكّد أن المجتمع السوري ليس مجرّد ضحية، بل قوة فاعلة.
لكن، هل أدركت السلطة الانتقالية هذه الحقيقة؟ وهل حسبت للمجتمع حساباً يليق بإرادته والأزمات التي تستدعي تكاتفاً شاملاً؟... لقد قضى النظام السابق أكثر من خمسة عقود في تقويض هذا المجتمع، مقيّداً إياه بوظائف لدى السلطة بدلاً من اقتصاد حرّ، معطّلاً رموزه ومنظّماته المدنية والأهلية، ومصادِراً أيّ دور لنخبه الفكرية، إلا في إطار التمجيد المطلق للسلطة. وأفقرَ هذا الإرث سورية سياسياً وثقافياً، مضاعفاً أزمات الحرّية والعدالة.
تبدو السلطة الحالية غير مدركةٍ أن المجتمع تجاوز تلك القيود، مكتسباً قوّةً ذاتيةً تجعل قهره مستحيلاً، لكنّها تتصرّف بثقة مفرطة، كما لو كان الشعب ذلك الكيان المهمّش الذي سحقه النظام السابق، متوهّمةً أنها تستطيع ضبطه من دون عناء أو خوف ردّة فعل، بل إنها أساءت قراءة دعمه لها ضدّ فلول النظام البائد، معتبرةً ذلك تأييداً لها بدلاً من دفاعٍ عن مشروع التحرّر، ظانّةً أن بإمكانها شدّ عصب السُّنة متى أرادت وتوظيف الانقسامات متى شاءت، وأن أخطاءها ستُغفر بحكم تمسّك الشعب بثورته.
كان ينبغي أن تستوعب السلطة درس الساحل، وأن تتجنّب إعلاناً دستورياً يمنح رئيس المرحلة الانتقالية صلاحياتٍ مطلقة. تجاهل هذا الإعلان، المصمّم لتعزيز هيمنتها، الفئات الثورية التي حسمت المعركة ضدّ الفلول، وأغفل طموحات المكوّنات المتنوعة، سالباً الشعب حرّيته السياسية (أحد أهم أركان ثورته) بحجّة الاستقرار. لكنّ هذا التجاهل لا يرى أن المجتمع بات قادراً على فرض التغيير، وأن صمته ليس ضعفاً، بل نضجاً يدرك متطلّبات اللحظة.
استمرار تهميش المجتمع أفضى إلى حكومة انتقالية تُقصي التيّارات السياسية بحجّة التكنوقراط "المحايدين"
ومن المؤشّرات المقلقة ظاهرة "الانصراف"، إذ قدم الثوريون الحقيقيون من الداخل والخارج لبناء ما تهدّم، فاصطدموا بحواجز أجهضت آمالهم، فعادوا بخيباتٍ مريرة، نتيجة احتكار السلطة من منظور ضيّق لا يعكس تنوّع سورية الفكري والسياسي. هذه الفئة، القادرة على حماية الدولة، قد تتخلّى عنها في أزمات مقبلة، إن لم تدرك السلطة خطورة استبعادها، فتصبح كالراعي في قصّة الذئب، عاجزةً من دون دعم شعبي.
والأشد إثارة للدهشة، قرار وزارة الخارجية رقم "53" بإنشاء أمانة للشؤون السياسية تابعة لها، في خطوة تعيد أساليب "البعث" البائد بمصادرة الفضاء العام، متجاهلةً إرث ثورةٍ قامت لاستعادة الفضاء وحقّها في السياسة. ... واستمرار تهميش المجتمع أفضى إلى حكومة انتقالية تُقصي التيّارات السياسية بحجّة التكنوقراط "المحايدين"، ما يُنذر بأزماتٍ غير محسوبة، بينما تمتلك البلاد كفاءاتٍ تمثيلية كفيلة بتعزيز السلطة لو استُثمرت.
خلاصة القول: إذا أصرّت السلطة على تجاهل الشعب والقوى السياسية الثورية، فسيصبح النضال السلمي حتمياً لفرض مطالب مشروعة، وبناء دولة ديمقراطية، لا مكان فيها لحكم الفرد والعائلة، وتتّسع للجميع تحت راية الحرّية والعدالة الاجتماعية، والتداول السلمي للسلطة.

Related News

