
"أناس عاديون" (common people) عنوان الحلقة الأولى من الموسم السابع للمسلسل المخيف "black mirror"، وتحكي قصة زوجين شابين ينتميان إلى مجتمع الناس العاديين الذين يعملون في مهن عادية تدرّ عليهم دخلاً متواضعاً، يريدان إنجاب طفل ويفشلان؛ ما يجعل الزوجة تحت ضغط نفسي شديد يعرّضها للإصابة بجلطة دماغية تُدخلها في غيبوبة الموت. حين يأتي الإنقاذ من مندوبة شركة يمكنها أن تُعيد تفعيل دماغ الزوجة عبر زرع شريحةٍ في رأسها تربطها بشبكة افتراضية تغطّي مساحة محدّدة من المكان إن تجاوزتها تختفي التغطية وتموت السيدة. يوافق الزوج على ذلك، رغم أن تكلفة الباقة أعلى من إمكانيّته، لكنه يزيد في ساعات عمله ليعيد زوجته إلى الحياة المشروطة بمكانٍ محدّد، وبساعات نومٍ تزيد عن النوم الطبيعي، ما يمنعها من العمل الإضافي. تعود الزوجة إلى حياتها وعملها مدرّسة للأطفال، وتسير حياتها بشكل اعتيادي تقريباً، لتفاجأ بعد فترة قصيرة أنها بدأت تتلفّظ بجمل دعائية تتناسب مع الكلام الذي تسمعه أو مع اللحظة التي تعيشها، كما لو أنها روبوت، ما يعرّضها لمشكلاتٍ في حياتها العملية والشخصية، لتفاجأ أن الشركة طوّرت باقة جديدة بسعر أعلى، بعد أن أصبحت الباقة التي تستخدمها مخصّصة للناس العاديين. وهكذا كلما طوّرت الشركة باقة جديدة قلّت خدمات الباقات القديمة وعرّضت حياة عملائها العاديين للتدهور والخطر. ما يدفع الزوج إلى تقديم تنازلاتٍ مهينةٍ لتسديد مبالغ الباقات التي تبقي زوجته في وضع نفسي وعملي مستقرّ. لكن في النهاية يعجز عن السداد مع التطور الكبير في الباقات، ولم يبق أمامهما أي حلّ. تقرّر الزوجة التخلّص من حياتها باستخدام باقة مؤقتة، يمكنها من خلالها الوصول إلى أقصى حالات السكينة، بحيث تغادر الحياة بسعادة مطلقة على يد زوجها الذي يخنقها.
يقدّم صنّاع المسلسل البريطاني "مؤلفون ومخرجون متعدّدون" نماذج مختلفة عن حياة البشر المقبلة مع التقدّم المهول في العالم التكنولوجي والرقمي الذي يستنفد طاقاتنا النفسية والمادّية بالكامل. نحن، شئنا أم أبينا، أصبحنا محكومين من السلطة الكبيرة والقبضة المستبدّة للشركات المنتجة للعالم الرقمي، حياتنا كلها صارت تعتمد عليها، ضغوطنا الاقتصادية، معظمها بسببها، نحن نسعى، بشكل يومي، إلى أن نزيد في أرباح هذه الشركات عبر استهلاكنا كل ما تقدّمه لنا، متجاهلين تماماً الاستنزاف النفسي والمادي الذي نعيشه بسبب إدماننا على وسائط العالم الرقمي المنتجة من شركات يعتبر أصحابها الأكثر ثراء في العالم، إلى حدّ تمكنهم من التأثير في السياسات الدولية؛ (وكلنا يعرف عن دور إيلون ماسك في وصول دونالد ترامب إلى كرسي الرئاسة الأميركية حالياً، وقوة تأثيره على قرارات ترامب الاقتصادية). نحن نعيش حالياً بداية العالم الديستوبي حيث سوف يتم استبدال العالم الواقعي بآخر افتراضي، نحن نبدو كما لو أننا نعيش على حافة المنطقة الشفقية التي تفصلنا عن العالم الافتراضي، لكن خطواتنا تسرع نحو الأمام، نحو هذا العالم المرعب الذي نذهب إليه متباهين بانتمائنا له وسعداء بخطواتنا السريعة في طريقنا إليه؛ لكن هذه السعادة هي سعادة المدمن غير المدرك للخطر المحدق: تراجع الحضور البشري بكل تنوعه وثرائه، لصالح عالم افتراضي لا مكان فيه للعواطف البشرية، عالم ميكانيكي تقني آلي بارد مسيطر ومستبدّ، وسوف يقضي لاحقاً حتى على مطوّريه، ذلك أنه مرشّح لأن يصبح مطوّراً ذاته بذاته، مستغنياً بذلك عن العقل البشري الذي صنعه.
أناسٌ عاديون نحن، أقصد عموم البشر لا النخبة الاقتصادية، نعيش من مهنٍ عاديةٍ. لدينا مهاراتنا المتناسبة مع شخصياتنا، نعيش ونموت وفق قانون الطبيعة. كان ينبغي أن تبقى البشرية هكذا، وأن تتطوّر بما يخدم حياة البشر ويعزّز حضورهم في كوكب الأرض. لكن التطور الرقمي المذهل وبدء الاعتماد على الذكاء الصناعي في مختلف مجالات الحياة كافٍ لجعل البشر يفقدون مهاراتهم شيئاً فشيئاً، ما يعني تنحيتهم عن مهنٍ كثيرة مبدئياً، ثم تنحيتهم عن المجال العام لاحقاً، وربما ربط حياتهم بالمعنى المادي بالعالم الرقمي، بحيث يعيشون ويموتون وفق قوانين هذا العالم، لا وفق القوانين الطبيعية... هل تتخيّلون الرعب؟

Related News

