
لا جديد بالنسبة إلينا في شرق سورية، نحن المبتلين بالعيش في رقعة جغرافية غنيّة بمواردها المالية من نفط وغاز، وطرق النقل والتجارة الدولية، ومساحات مروية وبعلية لأكثر المحاصيل الزراعية الاستراتيجية أهميةً، والمسحوقة تنموياً واقتصادياً. فما زلنا نعيش في هامش السلطة المركزية، مع تفاقم الأوضاع المعيشية والاقتصادية، والأسوأ أننا أمام مفارقة قاسية: إدارة ذاتية لم تنجح في توفير مسارات العيش الكريم وتأمين أبسط مقوّمات العيش والخدمات، وسلطة مركزية في دمشق متمسّكة بإرث سيئ، وبماضٍ قائم على الإقصاء وإنكار الحقوق القومية. وبين هذا وذاك، تتكسّر يومياً أحلامنا في العيش الكريم، وتتكشّف أكاذيب الآباء لتلافي عجزهم عن توفير مستلزمات المعيشة أمام أبنائهم، ويضيع الأمل في بناء نموذج سياسي واقتصادي يُراعي التنوّع، ويُعيد الاعتبار للكرامة الإنسانية.
في الإطار النظري، ومنذ نشأتها الأولى في خضمّ الحرب السورية، ادّعت الإدارة الذاتية لشمال سورية وشرقها تبنّيها خطاباً يقوم على التعدّدية، وحقوق الشعوب، والمجالس المحلّية، وعلى مفهوم "الأمّة الديمقراطية" و"أخوّة الشعوب"، مظلّتين جامعتين للسوريين. ونجحت، إلى حدٍّ ما، في تشكيل سردية شعبية، خصوصاً لدى الكرد الذين عانوا عقوداً طويلةً من التهميش والإنكار، لكنّ واقع الحال يكشف خللاً بنيوياً كبيراً. فهي أولاً لم تتمكّن من إيجاد إطار كردي جامع حول قضايا مصيرية، وعلى المستوى الخدمي، لا تزال المدن والبلدات الواقعة تحت سيطرتها تعاني تدهوراً ضخماً في البنية التحتية، من شحّ الكهرباء والماء، إلى انعدام الرؤية في إدارة الملفّ الاقتصادي، في ظل غياب الاقتصادات الناشئة والبديلة الناجحة التي تعود بالنفع المباشر على القواعد الاجتماعية. غياب تامّ لأيّ خطط جدّية وبنيوية لدعم الصناعة أو فرص العمل، وبشكل أخصّ الزراعة، والتي تُعتبر العصب الجمعي والمركزي للحياة في شمال شرقي سورية. بالإضافة إلى الأجور المدفوعة بالليرة السورية، في منطقةٍ تفيض بالنفط والقمح، ورغم ذلك يعيش السكّان في فقر مدقع، وتفوق أسعار المواد الغذائية واشتراكات الكهرباء رواتب الموظّفين.
إذ كانت المعاناة في سورية نتيجة للحرب، فإنها اليوم نتاج سوء الإدارة والمناكفات السياسية
وأصعب ما يعاني منه المواطن في شمال شرقي سورية التداخل بين العملين، الحزبي والإداري، الذي أجهض مبدأ الفصل بين السطات. عدا عن أن الخطاب الثوري، الذي شكّل السردية في بدايات نشوء الإدارة الذاتية، تحوّل نمطاً تسلّطياً لا يقبل النقد، ما ولّد حالةً من الاستياء المكبوت في أوساط المجتمع المحلّي، بمن فيهم الكرد أنفسهم. وفي المقابل، لا تريد الحكومة السورية هي الأخرى أن تتغيّر، بل تروّج نفسها الضامن لوحدة البلاد والمؤسّسات الرسمية، وتحاول عبر وسائل إعلامها المختلفة، وبعض القنوات الأمنية، ترويج نموذجها بديلاً "كيوت" ومنضبطاً من الفوضى في مناطق شمال شرقي سورية. لكن هناك ثلاث قضايا مُركّبة، إما أن السلطة في دمشق لا تنتبه إليها، أو أنها غير مستعدّة للخوض فيها، مع أنها تُشكل عصب طبيعة التعامل والعلاقة بينها وبين الأطراف والمكونات الأخرى: أولاها أن سورية، دولةً وسلطةً ونظاماً وحكومةً، شُكِّلت (وأُسِّست) في عقود من الاستبداد والتهميش، وهو ما لن تنساه المكوّنات، خصوصاً الكرد وما نالهم من تهميش قومي. وثانيها الرفض القطعي والصارم للحديث عن أيّ لامركزية حقيقية، وتصّر السلطة في دمشق على أنّ أيّ مشروع حكم محلّي لا يجوز (ولا يمكن) أنّ يخرُج من عباءة السلطة المركزية. وثالثها أن السلطة تتصرّف من منطلق أن ما فعله النظام السابق يجب إزالته وإنهاء مظالمه ونسف قراراته، لكنّها لم تلتفت بعد إلى سيولة الانتهاكات والجرائم التي ارتكبها نظام الأسد بحقّ الكرد: حزام عربي وإحصاء استثنائي وحظر اللغة الكردية، وغياب أيّ وجود أو إشارات إلى الأكراد في الدستور السوري لضمان حقوقهم الثقافية والهُويَّاتية والقومية، وتضمين الوجود الكردي الأصيل في كُتب التاريخ والجغرافية. والحديث مقتصر على إعادة بسط السيطرة وبالقوة أو بالإذعان... وهو ما يؤجّج سلوك الرفض، وخوف الأهالي من السلطة في دمشق، إذ لا يرون فيها حلّاً حقيقياً، بل يخشون العودة إلى نسخة مجرّبة من القمع، رغم قدرتها على فرض الأمن وتقديم الخدمات الأساسية، مقارنةً بهشّاشة الإدارة الذاتية.
ووفقاً لهذا الصراع بين النموذجَين، المجتمعات المحلّية باختلاف هُويَّاتها ما بين الكردية والعربية والآشورية السريانية، وسائر المكوّنات في المنطقة، تجد نفسها عالقةً بين خيارَين، لا يحمل أيّ منهما أفقاً مستداماً. فمن جهةٍ، لا يمكنها الوثوق بدولةٍ تستمرّ في إنكار الوجود القومي شعباً وقوميةً وهُويَّة، وتكتفي بخطاب "الأكراد جزءاً من النسيج الوطني"، من دون أيّ تحريك لهذا الانتماء أو تفعيله. ومن جهة أخرى، تُدار الإدارة الذاتية بعقلية مغلقة حزبياً، ولا تتبنّى (حتى اللحظة) سياسات تنموية جادّة، تضع الإنسان في مركز الاهتمام.
لا يُمكن التقليل من إرث 14 عاماً من الصراع والنزاع وتداعياتها، وسيولة الوعود السياسية والحزبية. لذا من الطبيعي أن يُفضّل الناس البحث عن العيش بكرامة في حياتهم اليومية. أن يذهبوا إلى أعمالهم، ويجدوا الخبز والماء والكهرباء. أن يعلّموا أبناءهم لغةً مفهومةً، ويحصلوا على الرعاية الصحّية. لكنهم يصطدمون بواقع مُربك، مؤسّسات الدولة السورية غير مسموح لها بالعمل داخل مناطق الإدارة الذاتية، وهذا يعني غياب تقديم الخدمات التي يحتاجها الأهالي من سجلّ مدني، ودائرة الهجرة والجوازات والسجلّ العقاري والمحكمة والقضاء والتعليم والمدارس والجامعات... إلخ، في غياب البدائل المُقنِعة من الإدارة الذاتية، فلا تعليمَ جامعياً أو ما قبل الجامعي يحظى بالاعتراف، ولا نظامَ صحيّاً فعّالاً، ولا شبكةَ حماية اجتماعية. وإذا كانت المعاناة سابقاً نتيجة للحرب، فإن الفقر والجوع والخوف أصبحت نتاج سوء الإدارة وانعدام التنسيق والمناكفات السياسية. فالاستثمار في الزراعة أصبح تجارة خاسرة، والمشاريع الاقتصادية لا ضمان لتأسيسها، والأكثر بشاعةً أن لا أحد يُنصت لمطالب الناس. الواضح أن لا أحد يُقدّم الخدمات لهذه المنطقة المنسية من حسابات الأطراف المتصارعة، فالجوع ليس نتيجة ظرف اقتصادي فحسب، بل تحوّل أداةً سياسيةً لإخضاع المجتمعات، فمجرّد غياب مفهوم الانتعاش الاقتصادي، وتغييب دعم المشاريع الاقتصادية والإنتاجية الصغيرة والمتوسّطة، يعني وضع القواعد الاجتماعية في حالةٍ من البحث عن الرضى، أو التبعية للسلطة (بغض النظر عن تسميتها) بحثاً عمّا يسدّ رمق العائلة.
لم تتمكّن الإدارة الذاتية من خلق إطار كردي جامع حول قضايا مصيرية
المعضلة أن القضية لا تتوقّف عند الفقد الاقتصادي والمعيشي فحسب، بل يُضاف إلى المشهد المرعب غياب أيّ رؤية جادّة للعدالة الاجتماعية والتعددية الثقافية والهُويَّة الجامعة، فالهُويَّة الكردية، المفترض أنها أصبحت من عناصر بناء العقد الاجتماعي والهُويَّة، والسردية والعقيدة الجديدتين الجامعتين لسورية بعد سقوط المانع (نظام الأسد)، لا تزال تُعامل في دمشق بوصفها ملفّاً أمنياً، وموضوعاً وظيفياً في خطاب الإدارة الذاتية، ولا حلولَ سياسيةً لها حتى اللحظة. والهُويَّة لا تقلّ أهميةً عن لقمة الخُبز، بل تحتاج ضمانات فعلية لا شعارات، ولا يريد الشعب الكردي الاعتراف بهُويَّته دستورياً فحسب، بل أيضاً ممارسة شعائر تلك الهُوية وآلياتها وركائزها، وممارسة ثقافته من دون خوف، وأن يتعلّم بلغته، ويشارك في القرار السياسي، بعيداً من الوصاية الحزبية أو العسكرية. وهي مطالب مشروعة، لا تتناقض مع وحدة سورية، بل تُعزّزها.
هل من مخرج مأمول وسط حقول الألغام، والطرق المعبّدة بالمسامير؟ هل سيتحوّل المأزق الحالي الذي نعيشه في شمال شرقي سورية عامّة، والمنطقة الكردية خاصّة، قدراً محتوماً لمائة عام مقبلة؟ هل الحلّ الأمثل في المفاضلة بين فشل إداري وآخر، أم حقّاً التفاضل هو بين السيئ والأسوأ؟ أم أن الحلّ الأكثر أهمية في بناء عقد اجتماعي يُعيد تعريف العلاقة بين المركز والأطراف، بين المواطن والدولة، على أسس من الاعتراف والعدالة والفعّالية؟... على الإدارة الذاتية أن تعترف بقصور تجربتها، وتفصل بين الحزب والإدارة، وتُطلق يد المجتمعات المحلّية في القرار الاقتصادي والخدمي. وعلى دمشق، إن كانت جادّةً في الحفاظ على وحدة البلاد، أن تبدأ بالاعتراف بالآخر الكردي، لا مشكلةً، بل شريكاً أصيلاً في الوطن. وفي ظلّ هذا كلّه من الانسداد السياسي والأمني والعسكري والمالي، يبقى المواطن هو الضحية الوحيدة لحرب الصلاحيات، يتأرجح بين هُويَّة تُنكَر، وخدمات تُمنَع، وحياة تُنهكها الطوابير والجوع.

Related News
