
نغفو مثقلين بحمولة وطنٍ مُنهك، نُرهقنا واقعهُ المرير، بعدما فقد المواطن فيه كل شيء: حقوقه السياسية، والاجتماعية، ووسائل العيش الكريم. نغفو ونحن الخاسرون، ونصحو على منشورات وتصريحات، لا تحمل إلا أوهام الانتصارات، واستعراضات القوة، وتقاسمٍ بشعٍ للسلطة والثروة، وكأن الوطن غنيمة يتوارثها من تمكنوا من السيطرة، بينما يُقصى المواطن من المشهد كليًا.
مجلس رئاسي، حكومة، أحزاب، ومكونات سياسية وعسكرية، كلها باتت لا ترى المواطن إلا من خلال نظرتها الضيقة المحكومة بمنطق التقاسم والتوازنات. ما يبدو شكليًا سلطة سياسية، ليس في الحقيقة سوى صورة لتقاسم مناطقي وطائفي، تتحكم فيه القوة العسكرية لا إرادة الناس. وكل من لم يكن جزءًا من هذا التشكل الوظيفي القائم على المحاصصة، فهو خارج اللعبة، لا يُعترف له لا بحقوق سياسية ولا بمكان في السلطة أو الثروة.
عدن اليوم مكبلة داخل مثلث قبلي يفرض عليها سطوته، محاط بمربعات نفوذ أخرى. حتى الانتماء المذهبي لم ينجُ من هذا الانحراف، إذ غدا يُصنّف وفق الانتماء الجغرافي والقبلي. بات من يطالب لعدن بحق سياسي موضع سخرية من المتنفذين، وكأن المدينة قد أصبحت إرثًا لمن تمكن من وضع يده عليها. لذا لم يعد مستهجنًا أن تسمع العبارة الوقحة: “عدن حقنا”.
وإن تجرأ ابن عدن على المطالبة بحقوقه في الشراكة السياسية، وُوجه باتهامات جاهزة، وصكوك تخوين تصدرها سلطة لا ترى في المواطنة سوى أداة قمع. يبدأ الهجوم بالسؤال البذيء: “من أين أنت؟”، سؤال حقير بقدر ما تعكسه ثقافة الكراهية المتأصلة، التي زرعت في عقول الأجيال، فكبرت مشوهة، تتغذى على التمييز المناطقي والمذهبي، متجاوزة قيم القبيلة الأصيلة، والنخوة الإنسانية التي لطالما ميزت تقاليدها.
ورغم أن عدن كانت دومًا حاضنة لكل من ضاقت بهم أوطانهم، وملاذًا للهاربين من طغيان الداخل، باتت اليوم تُواجَه بخصومة مركبة، لا تستند إلى منطق سياسي ولا إلى فهم إنساني، بل إلى حالة من الهلع المزمن وفقدان الثقة تجاه المدينة ورمزية نهوضها، وكأنها خطر على عروش سلطوية بُنيت على وهم الامتلاك واحتقار الآخر. هذه الفوبيا السياسية والاجتماعية ليست سوى انعكاس لانعدام الثقة بالنفس وبالقدرة على الشراكة، وكأن مجرد نهوض عدن هو تهديد لبقائهم ومشروعهم .
ما يُمارس على عدن اليوم هو اغتصاب للهوية، وتشويه للواقع، وسط آلة إعلامية ممولة خارجيًا، توظف المرتزقة والأقلام المأجورة، لتزوير الحقيقة، وتلميع من يتحكم برقاب الناس، بينما تتجاهل المدينة الموجوعة. أدوات التزوير تملأ الفضاء العام، تحرّف الحقائق، وتُسقط فشلها على خصوم وهميين، وعلى “عدو” خارجي هو مجرد شماعة لتبرير الاستبداد والنهب.
لكن مهما اشتدت الحملات، وتفاقمت المحاصصات، واستمر دعم الإقليم والعالم المتواطئ مع الفساد، فإن عدن لن تصمت. المدينة التي شكّلت منارة ثقافية وسياسية ونقابية، قادرة على استعادة دورها، إن أُفسح لها المجال. وإذا كان البعض يريدها مناطقية، فنحن أبناء هذه المدينة نعرف تاريخها، ونعرف قبائلها التي لطالما شكّلت عمقها: من العقارب والعبادل وجزء من الصبيحة، إلى ضواحيها في بير أحمد والعزيبة ومصعبين، ومناطق الامتداد الطبيعي لها نحو الحوطة وزنجبار. هذه الجغرافيا الممتدة تاريخيًا وعدنيًا، تُقصى اليوم بفعل سطوة الهضبة، شمالًا وجنوبًا، التي توحّدت في عقلية النهب والغلبة.
من أراد جرنا للمناطقية فسيسقط فيها أولًا. المناطقية داء سرطاني، ينخر المجتمع، ويقوّض الانتماء الوطني. ومن ينسى أن اليمن كلّه مليء بالامتدادات البشرية من الشمال إلى الجنوب وبالعكس، فقد خانه الإدراك. لا الجنوب نقيّ الهوية، ولا الشمال غريب الأصل. القبائل والعادات امتزجت، وأسماء العائلات تنقلت، والهضبة ليست سوى وجه آخر للفيد الممنهج.
لكننا في عدن نؤمن أن الحق لا يسقط ما دام وراءه مطالب. وأبناء عدن، على اختلاف أصولهم وأعراقهم ومذاهبهم، سيظلون يطالبون بحقهم في إدارة مدينتهم، والحفاظ على هويتهم المتنوعة، على ثقافتهم المدنية التي تعايش فيها الكل، دون إقصاء. فعدن لم تكن يومًا منطقة بقدر ما كانت فكرة، ولم تكن نسبًا بقدر ما كانت سلوكًا وهوية حضارية.
وستظل عدن تناضل لتعود كما كانت: قائدةً في النهضة، حاضنة للتنوع، ومنبرًا للعلم والثقافة والسياسة. فاتركوها تنهض بكم، بدل أن تسحبوها إلى حيث فشلتم.
The post عدن حقنا!!! appeared first on يمن مونيتور.